للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عظم ذنب المفتي بغير علم]

لابد أن يحذر المفتي أعظم الحذر من أن يفتي بغير علم، ومن أن يقضي بلا دليل؛ فإن تحليل الأموال والفروج والأطعمة والأشربة والحقوق إذا كان بلا بينة فهو من أعظم الافتراء والعياذ بالله، فمن استحل ذلك ورأى أن له أن يشرع، وأن يحلل ويحرم؛ فهذا أظلم الظلم وأكبر الشرك، وإذا كان يفعل ذلك بتقصير في الاجتهاد مع كونه قد تعرض للإفتاء، وأن ينسب إلى دين الله عز وجل كلامه فهو ذنب عظيم، ولذا اتفق العلماء على أن من شروط المفتي: أن يكون عالماً مجتهداً، وكذا من شروط القاضي: أن يكون عالماً مجتهداً؛ لأنه ينسب كلامه ذلك للدين والشرع، ويحكم باسم الشرع، وبالتالي فإذا حكم بغير علم فقد ضل -والعياذ بالله- وافق الحق أم خالفه، كما في الحديث: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة؛ فالذي علم الحق وقضى به فهو في الجنة، والذي علم الحق ولم يقض به فهو في النار، والذي لم يعلم الحق فهو في النار).

ولم يذكر وافق أم خالف؛ لأن قبول هذا لولاية القضاء -ومثلها ولاية الإفتاء- وهو لا يعلم يعتبر جرأة عظيمة على الله سبحانه وتعالى، وهو في النار على أي الأحوال حتى لو وافق الشرع، فما وافقه لأنه يعلمه بل وافقه لأنه وافق هواه، ولذا كان الإفتاء بالباطل والتعرض للفتوى ممن ليس من أهلها، وكذا التعرض للقضاء ممن ليس من أهله أمر عظيم، فاعله له شبه من هؤلاء الذين افتروا على الله عز وجل كذباً، فلهم نصيب من ذلك على قدر ما فعلوه من تبديل الدين وتحريفه، وهذا سبب انحراف الأمم عن دين الأنبياء، فقد وجد فيهم من ينسب إلى هذا الدين ما ليس منه، فيقول على الله ما لا يعلم، ويفتري على الله عز وجل الكذب، فلذلك كان السلف رضوان الله عليهم يخافون جداً من مرتبة ومنصب الإفتاء والقضاء ويشفقون منها، وكلهم ود لو أن أخاه كفاه مئونة المسئول فأجاب عنه بدلاً من أن يعرضه لهذا الخطر.

وكان كثير جداً من السلف يرفضون منصب القضاء مع أهليتهم لخوفهم على أنفسهم من ذلك، كما يروى أن الشافعي رحمه الله لما عرض عليه هارون الرشيد أن يتولى القضاء ببغداد قال: لو أعطيتني ما عندك من الملك وملك الدنيا على أن أغلق باب القضاء بالليل وأفتحه بالنهار لما قبلت ذلك، فانظر إلى قضاء شرعي يتولاه مثل الإمام الشافعي يعرض عنه، ولو كان له مثل ملك الدنيا حتى لا يكون مشاركاً فيما قد يكون مخالفة للشرع.

ومع أن أهل العلم كانوا بالفعل أئمة مجتهدين، فمن أمثلة من تولى القضاء: القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، وإمام عالم كبير مجتهد، فإذا كان الأمر كذلك فما أعظم ذنب من يفتي الناس بغير علم، ويقضي بينهم بغير علم، وينسب ذلك إلى الحق، وأنه الشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، فإن من لا يتقي الله سبحانه وتعالى في الفتوى فيفتي بلا علم، أو لا يتقي الله سبحانه وتعالى في الذنوب والمعاصي، كيف يستأمن على الفتوى؟ فلا يجوز استفتاء الجاهل، ولا يجوز استفتاء الماجن الفاسق المتخبط في المعاصي الذي ظهرت معاصيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهي أن يستفتى في أهل الكهف من أهل الكتاب أو من غيرهم أحداً لفساد ما عندهم، وكذلك لكونهم لا تقوى عندهم لله سبحانه وتعالى تحجزهم عن مواقعة الباطل والإفتاء بالباطل.

<<  <  ج: ص:  >  >>