قال: كان طيئ - وهو جُلْهُمة بن أدد - هو وابن أخيه مُراد بن مالك بن أدد بوادٍ باليمن يقال له طريف. وإنه نزل بطيء ضيف فأنزله وأكرمه وسقاه لبناً صريحاً كثير الرَّغوة طيَّب الطّعم، ثم أعْقَبَهُ بالليل مِثْلَهُ، وإن الضيف خَرَج من طيء فنزل بابن أخيه مُرَاد بن مالك، فسقاه لَبناً رقيقا لا طَعْمَ له ولا زُهْومَة، فقال الضيف: إني نزلت بإخوانكم هؤلاء فسقوني لَبَناً ما شَرِبْتُ مِثْلُهُ، ولا رأيت قَط لبنا طيِّباً - طعما ولونا - مثله، وذقتُ ألبانكم فوجدتها لا دَسَم لها، ولا رَغْوة، ولا طعما. فقالوا له: ولِم ذلك ترى؟ قال: لأنهم في أعلْى الوادي، فهم يسرحون إبلهم مَشْرِقَ الشمس، فنضرب أعطافها الشمس فتحس سخونتها وتصفو ألبانها وتدر أخلافها، ويطيب طعمُ ألبانها. ويبقى جلودها وأخلافها لاستقبالها الشمس واستدبارعا الصِّرد، وتسرحون أنتم مواشيكم فتستدبرها الشمس حتى تعود في أعطابها فلا تنفع بمرعاها، فاستعطبوا إخوتكم. فرحل مراد إلى طيء في ولده فقال: يا عم، إنا قد اجتوينا شَوْلَنا ورأينا الضرر في أموالنا، فقد مَسّها جهد وضُرَّ فأعقبونا ترجع إلينا أنفسنا، وتصلح أموالنا. فقد مسها جهد وضر. قال طيء: لا يوقع بينهما تلاح وتدابر، وتناقلوا أشعارا أظنها في النسخ الشامية، ولم ينشدها أحد من رواة العراق، فقال أحدٌ ولد مراد بن مالك في ذلك:
إن كنتم إخوتنا فأعقبوا ... نعقبكم إن جاء يوم غَيْهَب
ثم أقبلوا الحثَ ولا تنّكَّبُوا ... والحق يعلو نوره فَيَغْلِبُ
والضيم يشكوه مضيم مغضب ... والحُرّ من ذات القناع يَهْرَب
فأجابه حية بن فطرة بن طيء فقال:
إنا لكم لإخوة لم نبعد ... وما أستوت كَفُّ وكَفُّ في يد
إن التداني ليس بالتهدد ... والحُرّ يأبى سُبَّة المجلعد
وقال شاعر من مراد في ذلك: -
إن كنتم إخوتنا فانصفوا ... ننصفكم إن جاء يوم أكلف
إن الإخاء بالتأسي يُعَرف ... والحُرَّ من ذات الخمار يأنف
فأجابه حية بن قطرة فأنشأ يقول في ذلك شعرا: -
ليس أخونا من أتانا من عَلِ ... يطلب ما كان لي من أوّل
تحطه جايزة من منزل ... فهاجرونا بالحروب نصطل
بَحَّها حتى هلال الأعجل وقال العيثم بن عدي: فلما رأى طيء التفاني، ووقوع الشرّ بينهم، خرج عن الوادي في ولده حتى قطعوا جبلا يقال له بهلا، وكان طيء كاهنا فأنشأ يقول:
إمض ودع عنك جبال بهلا ... تركت أهلا وأصبت أهلا
حتى يحل الحمُّي أرضاً سهلا
ثم أخذ في طريق يقال له ويران في دار الجبل، وهو الطريق الذي قالت فيه العرب: لا تُكِلّم رعيل بن كعب بن عمرو بن خلة بن مالك - وهو مذحج - في أدد بن أخ طيء في أناس من مذحج يسألون طيُا الرجوع، فلما توسط رعيلٌ الطريق قال: لا تمر ظعينة حتى تمرّ ظعينتي. فكف القوْم حتى مرت ظعينته، وقالوا: لا تُكَلِّم رعيل. فذهب مثلا. قال الهيثم: ثم انحدر طيء في وداي يقال له الهرجاب بتهامة، فقال طيء: - هرجان هرجان. هرهان هرهان. ذهاب لا إياب. لا عتاب بعد عتاب.
ثم امتنع طيء من الرجوع، فسمى طياً لطية المراحل مُرَاغِماً لقومه. فارتحل طيء لوجهته، وتخلف مراد. حتى إذا انتهى طيء إلى مضيق الوادي متقدما بولدة فجاز ساير، وقضّ الله صخرة من أعلى الوادي فسدت الطريق بين طيء ومراد، وتخلف عن طيء من ولده اعلا وانيم وطبيان وبذول ورضا، فانتسبوا في ولد زاهر بن عامر بن عربيان بن مراد، وسَمَّت العربُ ذلك الموضع ضيقةً، وقال مراد عند انصرافه عن طيء:
لو كان أأسى طيء ما أمسى ... مغتربا يزجر طيرا نحسا
لو كان في أهل طريق بأسا وأنشد الهيثم لطيء:
اجعل مُرَاداً كَحَدِيثٍ يُنْسّى ... لِكل حيّض مُصْبَحٌ ومُمْس
قال ومضى طيء حتى أتي بئرا بناحية حصن، فأقام هناك بها. وسرحٍ إبله. ثم أن ولده انتشى لهم المَرْعى، فرجعوا إلى طيء فأخبره أنهم قد أصابوا قرية من قُرى عاد، يقال لها إحليلا، فانتشروا إلى وراء ذلك إلى فضاء من الأرض، فأقاموا بها.