للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقد السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقدن بالصفاح نار الحباحب

بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كايراع المخاض الصوارب

في شعر طويل اختصرنا منه هذه الأبيات. دلالة على ملكهم وكثرة مناقبهم.

ولم يزل أولاد جفنة، وهم ملوك غسان أرباب الشام، وأملاكها، مذ فرقهم سيل العرم، الذي قص الله قصته في كتابه، وأبانها في خطابه، إلى أن أتى الله - عز وجل - بالاسلام.

[٣ - جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث الأعرج]

وكان آخر من ملك، جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث الأعرج بن جبلة بن الحارث الأكبر بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء. وهو الذي أسلم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم ارتد في أيام عمر - رحمه الله -.

وكان من قصته أنه لما أسلم، أيام عمر بن الخطاب - رحمه الله -، كتب إلى عمر من الشأم يستأذنهه في القدوم عليه، فأذن له عمر. فتحمل جبلة من الشام في خمسمائة فارس من آل جفنة وأشراف قبائل غسان، حتى كان بذي خشب، نزل فلبس أصحابه أقبية الديباج، وجعل على رؤوسهم الأكاليل، وتقلدوا السيوف المحلاة، وحملهم على أعناق الخيل وقد قلدوها قلائد الذهب، وقد لبس جبلة تاج الملك وقد كلل باللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وفي مفرق منكبه قرط ماربة بنت الأرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة.

فتلقت الأنصار جبلة بذي خشب بالنزول والطرايف، وأقبلوا يحفونه حتى دخل المدينة؛ وأهل الحجاز لم يروا مثله قط، فلم يبق امرأة، فضلا عن الرجال، الا خرجت تنظر اليه، والى موكبه ويفتخرون به على قريش والعرب كلها من معد بن عدنان.

فدخل على عمر بن الخطاب، فسرّ بقدومه وأمر الأنصار بإنزاله وإكرامه، ثم حضر الحج، فحج عمر، وحج معه جبلة، وقدم جبلة مكة في الزي الذي أتى به وهيئة المملكة، وعظم السلطان، فلم يكن لأهل الموسم حديثا غيره. واستعظمت ذلك العرب، وأتت وجوه قريش اجلالا له واعظاما وفخرا به.

فبينما جبلة يطوف بالكعبة، إذ وطىء رجل من فزارة على إحرام جبلة، فانحنى حتى بان جسده، فرفع جبلة يده فلطم أنف الفزاري، فجعلت الدماء تسيل على صدره، فأتى عمر مستعديا على جبلة؛ فلما رأى عمر ما بالفزاري أشاطه غيظا على جبلة، فبعث اليه فأتى به. فقال: ما حملك أن صنعت بهذا ما أرى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، تعمد حل إزاري تالله، ولولا حرمة البيت ودين الاسلام، ما ضربته الا بالسيف. فقال عمر: أنت وهو في الاسلام سوي، فأرضه والا أنصفه من نفسك. قال جبلة: فإن لم أفعل فماذا؟ قال: آمره ان يهشم أنفك كما فعلت. قال: يا أمير المؤمنين لقد ظننت أن أكون في الاسلام أعز مني في الجاهلية. قال: هوذا. فلما رأى جبلة العزيمة من عمر، أيقن أنه فاعل به ما فعل به. ما قال، فقال له: نعم انظرني في ليلتي هذه إلى الغد، ثم أنصفه، فبذل للفزاري عشرة الآف درهم، فأبى الا أن يهشم أنفه، فاستعظم من حضر الموسم من قبائل اليمن كلها وتداعت قبائلهم، حتى طاف أهل الموسم الفتنة؛ ثم حجز بينهم الليل. فلما رأى جبلة ذلك تحمل في ليلته تلك، فجمع جبلة رواحله، من غير علم عمر بشيء من ذلك؛ فسار إلى الشام، ثم تحمل من دمشق في مائة ألف بيت من آل جفنة وأشراف قبائل غسان، فاقتحم بهم أرض الروم، ووصل بهم القسطنطينية متنصراً، فسر ذلك هرقل ملك الروم، لما كان من قدوم جبلة، ودخوله في دينه والتجائه اليه، ورأى ذلك فتحا عظيما وأمر بطارقة الرزم بإنزاله واكرامه، وأقطعه وأصحابه حيث أحبوا من أرض الروم. وفي ذلك يقول بعض شعراء هذا العصر:

تنصرت بعد الحق من عار لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكلفت فيها لجاجا ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور

فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر

وياليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر

وياليت لي الشام أدنى معيشة ... مجاور قومي ذا السمع والبصر

أدين بما دانوا به من شريعة ... وقد يصبر العود الكبير على الدير

فلم يزل جبلة على ذلك ببلاد الروم إلى أن مات.

عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة

<<  <   >  >>