وسمع مسوق ابن أبرهة ملك الحبشة بابن ذي يزن وما اجتمع إليه من الناس فَجَمَعَ أصحابه. وسار بهم ليقاتل حتى التقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا، وعمد خُرْزَاد إلى ابن له فَوَلاَّه فرسان أصحابه، وقدَّمَه فصار في موضع لم يمكنه الخروج منه فقتَل وجميع أصحابه، واصطكت الناسُ حتى حَمَيَت الشمس، وكان مسروق على الفيل، واشتد القتال، وكان عليه تاجٌ بين عينيه ياقوته حمراء، فلما حِمَيت الحربُ قال لهم خرزاد بن موسى: ويقال إن اسم خُرْزاد وهرز. فقال: يا معاشر اليمن على أي الدَّوَاب مَلِكُهُمُ؟ فقالوا على الفيل، فقاتلهم ساعة، ثم قالوا: قد تحوّل إلى الفرس، فقاتلهم ساعة، ثم قالوا: قد تحول إلى البغل، فقال ابنُ الحمار: ذَلَّ وذَلَّ مُلْكُه اسمتوا إلى سمته. فلما استقر بَصَرُه عليه وقَد رَبَط حاجِبَه بجريرةٍ فأخذ قوسه وكان لا يوترها غيره، ثم نزع فيها بسهم، ورمى مسروقا بسهم، فأصابه السهمُ على الياقوته التي بين عينيه، فتغلغل السهمُ في رأسه حتى خرج من قفاه، وخَر ضريعا، وحمل أهلُ اليمن على أهل الحبشة فانكشفوا، وقتلوا تحت كل حجر ومدر وشجر، فلم يُجْمَع منهم إلا الشريد، وملك ابن ذي يزن اليمنَ، ودخل صنعاء، ونزل غمدان - وهو بيت مملكتهم - وله حديث طويل اختصرناه، ووفدت إليه الوفود، وامتدحته الشعراء، وفيه يقول أمية بن أبي الصلت الثقفي ويذكر صنيعه وبلاءه: -
لله دَرُّهُمُ منْ عُصْبةٍ خرجوا ... مَا إنْ أرى لَهُمْ في الناس أمثالا
بيضُ الوجوهِ كرامٌ من ذوي يمن ... أسْدُ ترشح في الغْيضَاتِ أشْبَالا
لا يرمضون إذا طال الوقوف بهم ... ولا ترى لهم في الطعن مَيَّالا
لا يتكلمون إذا نادت طلائعهم ... إلا اركبوا فلقد نبهت أبطالا
كيد الأنيس ورمى الجن عن شرر ... وهصر أسد إذا أنكلن إنكالا
لم يطلب الثأر ابن ذي يزن ... خيم في البحر يبغي العز أحوالا
أتى هرقلا وقد شالت نعامته ... فلم يجد عنده نجح الذي سالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد ثالثة ... من السنين لقد أيغلت إيغالا
حتى أتي ببني الأحرار يقدمهم ... تخالهم فوق متن الخيل أجبالا
صب الأسود على سود الكلاب فقد ... أضحى شريدهم في الناس اسلالا
فاشربْ هَنيئاً عَليك التّاجُ مرتفعا ... في رأس غَمْدان قصرا منك مِحْلالا
قصر منيف بناه الفيل ذُويزن ... فهل ترى أحدا نال الذي نالا
واشرب هنيئا فقد سالت نعامتهم ... وأسْبِل اليوم في بُرديك إسبالا
تلك المكارم لا قَعْبَانِ مِن لَبَن ... شيِبَا بماءٍ فعادا بَعْدُ أبوالا
وغمدان حصن باليمن على جبل، وهو بناء كان بصنعاء لم يُدْرَك مثله، هدمه عثمان بن عفان في الإسلام، وله رسومٌ باقية إلى اليوم وصنعاء من المدن التي لا يُدْرى مَنْ بناها، وهي باليمن واصطخر بفارس والأبلَّة بالعراق.
ذكر خروج عبد المطلب بن هاشم في وفد قريش لتهنئة ابن ذي يزن بالملك حين ظفر بالحبشة وأخبار ابن ذي يزن عبد المطلب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حين بشر به
قال محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: لما ظفر ابن ذي يزن بالحبشة، ورجع المُلْكُ إلى حِمْيَر بُشِّرت بذلك جميعُ العرب لرجوع الملك فيها، وهلاك الحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، فخرجَت وفودْ العرب وأشرافُها وشعراؤها لتهنئة سيف بن ذي يزن، وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه، وطلبه بثأر قومه. فأتاه وفدُ قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبد الله بن جُدْعان وخويلد بن أسد. في أناس من وجوه قريش من أهل مَكَّة. فأتوه بصنعاء. فإذا هو في رأس قصره غمدان، وهو الذي ذكره أميه بن أبي الصلت الثقفي في مدحه:
فاشْرَبْ هنئاً عليك التاج مرتفعا ... في رأس غمدان قصرا منك محالا