للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في شعر له طويل. فاستأذنوا عليه فأذن لهم، فدخلوا عليه فإذا الملك مضمخ بالعَنْبَرِ، ينطف من وجهه، وينبض المسك من مفرقه، وسيفه بين يديه، وعن يمينه وشماله الملوكُ وأبناءُ الملوك، والمقاول. فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام. فقال له سيف بن ذي يزن: إن كنت ممن يتكلم، بين يدي الملك فقد أذنا لك. فقال له عبد المطلب إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا، صعبا منيعا، شامخا باذخا، وأنبتك منبتا علت أرومته، وعزت جرمته، وثبت أصله، س وبسق فرعه، في أكرم معدن وأطيب موطن، وأنت - أبيت اللعن - رأسُ العرب وربيُعها الذي به تخصب، وأنت أيها الملك رأس العرب الذي له تنقاد، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يحمل ذكر من أنت سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه، نحن أيها الملك أهل حرم اللهِ وسَدَتَة بيته، أشْخَصَنَا الذي أبهجنا، لكشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة. قال الملك وأيهم أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب المطلب ابن هاشم بن عبد مناف. قال له الملك: ابن أختنا؟ قال نعم - وكانت أم عبد المطلب من اليمن من الخزرج من بني عَدِيْ بن النجار من أهل المدينة - فعند ذلك قال له الملك: أدْنُ فأَدْنى، ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحبا وأهلا، وناقَةً ورَحْلا، ومناخا سهلا، وملكا رِبْحلاً، يعطي عطاء جزلا، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، وأنتم أهل الليل وأهل النهار، لكم الكرامة ما أقمتم، والحياء إذا ظعنتم. ثم قال: انهضوا إلى دار الضيافة والوفود. فأقاموا شهرا لا يَصِلون إليه، ولا يؤذن لهم في الأنصراف. قال: وأُجْرِيَت عليهم الأنزال والمائد، ثم انتبه لهم انتباهةً فأرسل إلى عبد المطلب فأدناه، وأخلى مجلسه وأدناه، وخلا به، ثم قال: يا عبد المطلب، إني مفض إليك من سِرِّ علمي أمرا، لو غيرك يكون لم أبح له، ولكني وجدتك معدنه فأطلعتك عليه، فيكن عندك مطلوبا حتى يأذن الله فيه، الله بالغ أمره، إني أجد في الكتاب المكنون والعلْمِ المخزون الذي اختَزَنَّه لأنفسنا واحتجبنا به دون غيرنا خيرا عظيما، وخطبا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة، ولك أنت خاصة. قال عبد المطلب: أيها الملك مثلك مَن سَرَّ وبَرّ فما هو فداؤك أهل البر والمدر زمرا بعد زمر؟ قال: إذا ولد بتهامة غلامُ بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الدعامة، إلى يوم القيامة. فقال له عبد المطلب: أبيت اللعن، لقد أبتُ بخير ما آب بمثاه وافد قوم. ولولا هيبةُ الملكِ وإعظامُه وإخلالُه لسألته من سرّه أياي ما أزداد به سرورا. قال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه، وُلد، واسمه محمد صلى الله عليه وسلم يموت أبوه وأمه، ويكفله جَدُّه وعمُّه، قد وجدناه مرارا، والله باعثه جِهَارا. وجاعل له منا أنصارا، يُعِزُّ بهم أولياؤه، ويُذْلُ بهم أعداءه، يرمى بهم الناس من عرض، ويستبيح بهم كرايم الأرض، يكسر الأوثان، ويعبد الرحمن ويخمد النيران، وَيدْحَرُ الشيطان، قوله فصلَّ، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله. قال له عبد المطلب: أيها الملك عَزَّ جدك، وعلا كعبك، وطال عمرك، فإن رأى الملك أن يخبرني مَنْ سَارَّني إياه بإفصاح فقد وضح لي بعض الإيضاح. قال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، إنك يابن عبد المطلب فَجَدُّهُ غير الكذب. قال: فخر عبد المطلب ساجدا. فقال له: أرفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست بشيء مما ذكرتُ لك، قال عبد المطلب: نعم أيها الملك، كان لي أبنٌ، وكنت به معجبا، وعليه شفيقا، فزوجته كريمةً من كرائم قومي، آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام فسمّضيْتُه محمدا، مات أبوه، وهو يتيم، بين كتفيه شامة، وفيه كل ما ذكرت من علامة. قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت كما قلت، فاحتفظ بابنك واحذر عليه من اليهود، فهم أعداؤه، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا. واطو ما ذكرتُ لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النَّفَاسَةُ من أن تكون له الرياسة، فيبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، وهم فاعلون وأبناؤهم، ولولا إني أعلم أن الموت مجتاحني قبل مبعثه لسرتُ بخيلي ورَجلي حتى أصير بيثرب دار مُلكه، فإني أجده في الكتاب الناطق والعلم السابق أنّض بيثرب استحكام أمره، وأهل

<<  <   >  >>