فبعث اليه طبيبا، فلما وصل إليه الطبيب شرب قيس المغرة، وجعل يقيئها كأنها دم، وكان أول ذلك من العرب، فعمد إليه الطبيب فجعل يكويه، وقيس يقول: انضج فلم أجد لمساوئك مساة. فرجع الطبيب إليه فأخبره فقال: مالي أراني وصارت اليك حتى مات. وعمد قيس إلى عصابة يشد على بطنه.
ثم خرج في خيل قومه، والملك بموضع يقال له قضيب، وهو نهر بمراد، فدخلت مامة إلى ابنها. فقالت: يا عمرو اني لأجد ريح الحديد.
قال: ليس هذا بشيء. ثم أتته.
قالت: اني لأجد صهيل الخيل.
قال: هذا من عسكري.
فبينما هي كذلك إذ مر بها اسراب القطا. فقالت: يا عمر لو ترك القطا لنام. فذهبت مثلا.
قلم يلبث إلا والصيحة في عسكره، فخرج عمرو فقام في الناس فاقتتلوا أشد القتال، فلما بلغ عمرو الجهد انشأ يقول:
كل امرئ مقاتل عن طوقه ... كالثور يحمي جلده بروقه
لما رأيت الموت قبل ذوقه ... أتى الجبان حتفه من فوقه
فقعفت الخيل، وقيس على الخيل فكشفها حتى وصل إلى الملك فضربه ضربتين فقتله وأسرع القتل في عسكره فاستبيح.
قال: فلما وصل الخبر لعمرو بن هند الملك، ان قيس بن هبيرة في جمع مراد قد قتل أخاه عمرو بن مامة. غضب من ذلك غضبا شديدا، وعزم على غزو مراد. ففي ذلك يقول طرفة بن العبد، يحرض عمرو بن هند على مراد:
أعمروا بن هند ما ترى رأي معشر ... أماتوا باحسان جارا مجاورا
دعا دعوة إذ خالط السيف صدره ... إمامة واستغوى هناك معاشرا
ولو خطرت انباء قران حوله ... لظل على ما كان يطلب قادرا
ولكن دعا من قيس غيلان عصبة ... يسوقون في أعلى الحجاز الأباعرا
إلا ان خير الناس حيا وميتا ... ببطن قضيب عارفا ومناكرا
يقسم فينا ماله وقطينه ... قياما عليه بالمال جواسرا
في شعر طويل.
قال، فخرج عمرو بن هند في جمع عظيم حتى اتى مراد فخرج اليه قيس بن هبيرة في جمع مراد فلقيه. ففعل عسكره ولم يصب عمرو بن هند بشئ. قول قيس فلذلك قول قيس بن هبيرة شعرا:
فجاءوا سراعا بالحديد وحسرا ... على كل محبوك من الخيل ضامر
فأبصرته والخيل بني وبينه ... بأبيض محشوب الغرارين باتر
فغادرته ميتا وولت جموعه ... حذار المنايا كالنعام النوافر
كذلك فعلي بالملوك وراثة ... حبيت بها من كابر بعد كابر
فهذه من فعلاته في الجاهلية التي لا يعرف لأحد مثلها.
[٤ - قيس بن هبيرة]
ذكر أبو عبيدة، وهو أيضا قاتل الأسود بن كعب العبسي، وكان من حديثه، ما حدث هشام عن مخنف قال: لما تغلب الأسود على صنعا، عمد إلى من بصنعا من الابناء فاستعبدهم، وأمرهم يمشون بين يديه إذا ركب، وأخذ المرزبانة بنت فيروز، إمرأة صاحب الأنباء فاغتصبهم عليها وكانت جميلة، وكان للعبسي كل ليلة على الأبناء جارية من نسائهم.
فجمع قيس بن هبيرة مراد ومن أطاعه من ألاحياء. ثم ارسل إلى العبسي، وقال: إن امري وأمرك واحد. فأجابه العبسي على ذلك. وقال قيس لأعمل حيلة على قتل العبسي. وبعث المرأة باذام التي اغتصبها العبسي على نفسها في ذلك إلى وقت السحر، ولم تصل اليه الا من جدول تخرج منه الماء في قصره. فلما كان وقت السحر أقبل قيس وأصحابه ودخلوا عليه وهو نائم. فصعدوا إليه، فإذا بأربعة مجالس كل مجلس فيها شمع يتوقد وفرش، فلم يدر القوم في أي المجالس.
وكان العبسي سكران نائما فدخل قيس، فإذا به نائم فركاه برجله حتى جلس. ثم قال له: خذ سيفك فإني لا أقتلك نائما. فقام الأسود فأخذ سيفه، ثم ضربه به قيس، فقتله، فاجتز رأسه. ونادى فروة بن مسيك بالأذان في رأس غمدان، واجتمعت بنو عبس. فلما رأت مراد النار في رأس القصر اقبلوا على الخيل سراعا. وطافت بنو عبس بالقصر، فألقى اليهم قيس رأس الأسود، فلما أحسوا بخيل مراد قد أقبلت عمدوا إلى ما وجدوا من نساء الابناء وأمتعتهم أخذوا وأردفوا ذراري الأبناء وبناتهم. وتوجهوا إلى جبل عيسى.
قال المكشوح:
دعانا رسول الله من دون قومه ... من بعد طول عتاب
فسرنا اليه ما لنا ثَم خامسٌ ... سوى الله ان الله خير مجاب