ووقع بمكة رعاف شديد، ووباء، فأخرج خليل ولده من بطن مكة إلى مر الظهران، فرارا من الوباء، فارتحلوا عنه، وتخلف خليل مفردا مع ابنته " حتى "، زوجة قصي. فمات خليل في ذلك الوباء بعد أولاده الذكور، فأوصى إلى ابنته " حتى "، ودفع إليها مفاتيح الكعبة. وقال: إذا رفع الله هذا الوباء، ولم يبق داء فابعثي إلى اخوتك، فادفعي إلى اخوتك هذه المفاتيح اليهم ليكونوا مكاني، ولتبق سدانة البيت فيهم. وأكد عليها العهد ووثق بها بوفائها. فلما وصل وصارت المفاتيح إلى " حتى "، طال التناحي باخوتها عن البيت، حذر الوباء.
قال قصي لعبد الدار، ولده، وهو ابن حتى، وكان أكبر ولده: لو سألت أمك ان تصير إليك مفاتيح الكعبة، فتكون في يدك، فإذا رجع أخوالك، اخوتها، رددت ذلك اليها فسلمته إليهم. فسألها ولدها عبد الدار، ففعلت له وأجابت ولدها فدفعت المفاتيح اليه، وهو عبد الدار بن قصي بن كلاب.
فلما ارتفع الداء. ونجم الوباء. عاد بنو خليل بن حبشية، يطلبون إلى أختهم المفاتيح، فامتنع بها قصي، وأولاده، فثبت في ايديهم غدرا لا غلبة يد ولا حق، على ما شرحت لك من أمرها إلى اليوم. وفي ذلك يقول زهير بن خداس العامري في منافرة حرب، بين قومه وبين ولده قصي:
بصهركم في لحيّ كعب بلغتم ... سدانة بيت الله غدار بلا غصب
فما نلتموها باغتصاب فتفخروا ... ولا جرأة الا بصهر بني كعب
ولولا رزاح في كتائب قومه ... لكنتم عبيدا بالصفاح لدى الشعب
ولولا الإطالة لتقصيت الحديث والشرح، ولجئت بما يدلك زيادة على ما أوردت، لكن حذر الإطالة، اوردت هذه اللمع، وان جاء في هذا الكتاب تكرير لهذه الاقاصيص أعدتها وشرحتها ان شاء الله.
[٣ - خبر مسير الأزد حين أخرجهم سيل العرم وتفرقهم في البلاد]
قال: ثم أن الأزد لما خرجوا من جنتي مأرب حين احسوا سيل العرم، وساروا في مسيرهم ذلك، حتى وصلوا إلى مكة وبها يومئذ جرهم بن قحطان. وكان من امرهم ما قصصناه، فأقامت الأزد بمكة حتى أتتهم روادهم، فعند ذلك افترقوا من مكة فرقا، كما ذكرناه في أصل القصة. فكان كل فرق منهم في أرض وبلاد ز فمنهم من نزل السروات. ثم افترقوا من السروات. فسار بعضهم إلى عمان، وأقام منهم من أقام بالسروات، ونزل بعضهم السهل. ومنهم من تخلف بمكة، وما حولها. ومنهم من سار إلى يثرب. ومنهم من خرج إلى العراق.
وسار ثعلبة وجفنة إبنا عمرو بن عامر، ومن بقي من إخوتهم وقومهم، فنزلوا بالمشلل نبين قديد والجحفة، على ماء يقال له غسان، فاقاموا به زمانا، فسموا بذلك الماء غسانا. وقد ذكرنا الاختلاف في تسميتهم غسانا في موضع قبل هذا. ثم انهم نهضوا من بعد ذلك حتى لحقوا بأرض الشام: وكان منهم ملوك غسان بالشام وكان من أمرهم ما قد ذكرنا، قبل هذا.
وكان نزول غسان الشام، في عهد عيسى بن مريم، عليه السلام، وأن غسان إنما نزلت الشام، بعد مسير الأزد من مأرب ونزول الأزد في البلدان، من نزل منهم بالسراة، وعمان، وبطن مرّ ويثرب، والعراق.
وقال بعضهم ان الأزد خرجت من مأرب، ومعها قضاعة، افترقت، فنزل وادعة بن عمرو بن عامر أرض ضوار، فصاروا مع همدان. ونزل عك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد شمام، وشردد، ومرد، وهذه أرضون من تهامة على ساحل البحر. ثم سار الباقون من الأزد حتى نزلوا الناصف من أبيدة، وهو واد فيما بين نجد والسروات في سند جبل السراة، وهو احد مجامع شتوة اليوم، الذي يجمعهم فيه المصدق.
وافترقت الأزد من أبيدة، فرقا ثلاثا: فسارت فرقة منهم، ومعهم مهرة بن جيدان بن عمرو بن الحاف، وقضاعة بن مالك بن حمير، ومالك وعمرو ابنا فهم تيم الله بن أسد بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن الحاف بن قظاعة، في قبائل قضاعة ومن استجمع معهم من اليمن، وقد ملكوا عليهم مالك بن فهم الأزدي، فسار بهم مالك بن فهم على اليمانية. ثم سار بهم على برهوت، وهو واد بحضرموت، ثم جنب الخيل وامتطى الابل، وجعل على مقدمته ابنه هناة بن مالك في ألفي فارس من صناديد الازد وفرسانهم، وجعل يجد السير حتى انصب على عمان في طريق الشحر، وقد تخلفت مهرة فنزلت ارض الشحر.