وبدلنا ربي بها غربة بها الذئب يعوي والعدو المحاصر
فإن تمل الدنيا علينا بكلها ... ويصبح حال بعدنا وتشاجر
فكان ولاة البيت من بعد ثابت ... نمسي بهذا البيت والخير ظاهر
وانكح جدي خير شخص علمته ... فأبناؤنا منا ونحن الأياصر
فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك عضتنا السنون العوابر
وسحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم آمن وفيها المشاعر
بواد أنيس ليس يؤذي حمامة ... ولا منفر يوما وفيها العصافر
وفيها وحوش لا تزال انيسة ... إذا ؤخرجت منها فما أنم تغادر
فياليت شعري هل لعمرو هل لعمرو بعدنا ... جياد ومضا سبيله فالظوهر
قال، وانطلق مضاض بن عمرو نحو اليمن إلى أهله، وهم يتذاكرون ما حال بينهم وبين مكة، وما فارقوا من أمنها، وملكها، فحزنوا على ذلك حزنا شديدا، فبكوا على مكة. ويقولون الاشعار في مكة، واختارت خزاعة حجلابة الكعبة وولاية أمر مكة، وفيهم بنو إسماعيل بن إبراهيم بمكة، لا ينازعهم أحد في شيء من ذلك، ولا يطلبونه إلى أيام قصي بن كلاب، فتزوج لحيّ وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر فهيرة بنت عمرو بن عامر بن مضاض بن عمرو الجرهمي، ملك جرهم. فولدت له عمرو بن ربيعة بن لحيّ بن حارثة فلما شب عمرو وساد وشرف وعاش ثلاثمائة سنة وبلغ عدد ولده وولد ولده في حياته الف مقاتل بمكة، وفي العرب من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية. وهو الذي قسم بين العرب حكمة حكموها عشرة الآف ناقة. وكان قد اعوز عشرين فحلا، فكان الرجل في الجاهلية،إذا ملك ألف ناقة فقأ عين ابله، وكان قد فقأ عين عشرين فحلا. وكان أول من أطعم الحاج بمكة سدائف الابل ولحماتها على الثريد، وعم في ذلك السنة جميع العرب. وكان ذهب شرفه في العرب كل مذهب.
وفي هذه القصة يقول عمرو هذا بن ربيعة لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر اشعارا كثيرة، وكلمات طويلة كتبنا منها ما ندل على هذه الصفة:
ونحن ولينا البيت من بعد جرهم ... لنمنعه من كل باغ وظالم
ونمنعه من كل شيء يريده ... فيرجع عنا مرجعا غير سالم
ونحفظ حق الله فيه بجهدنا ... ونمنعه بالحق من كل آثم
وكيف يريد الظلم وفيه ربنا ... بصير بأمر الظلم من كل غاشم
فوالله لا ننفك نحفظ حقه ... ونعمره ما حج أهل المواسم
ونحن نفينا جرهما عن بلادها ... إلى بلد الافيال أهل المكارم
" في شعر طويل ".
فكان عمرو يلي البيت وولده من بعده خمسمائة سنة، حتى كان آخرهم خليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو. فتزوج إليه قصي بن كلاب ابن مرة ابنته حتى نبت خليل، وسنأتي بقصتهم إن شاء الله.
ولم أدع أن أفسر سبب رجوع سدانة البيت إلى قريش. إذا كان ذلك يقتضي ما قد أوردته وشرحته ليقف عليه من لا يعلم صحته. كان سبب ذلك ان رزاح بن ر بيعة العذري، كان أخا قصي بن كلاب لأمه، فلما همت كنانة تقتل قصي بن كلاب، وانتزاع ما في يده وطرده واذلاله. استنجد اخاه رزاح بن ربيعة العذري، واستصرخه، فانجده رزاح في خيل كثيرة من فرسان اليمانية من الشام، وأجاب دعوته، فقتل رزاح كنانة وأفنى جموع العدنانية، واستأصل شوكتهم وأبادهم وجمع لأخيه قصي قومه. فلما شدد أمره، وشد عضده، وادرك له رغمه، أراد رزاح الارتحال فخاف على أخيه قصي غائلة كنانة، وأن تعاوده الحرب إذا هو فارقه فخطب رزاح لاخيه قصي، إلى الخليل بن حبشية الخزاعي، وهو يومئذ سادن البيت ليمنع قصيا بخزاعة، ومنعتها من كنانة، إذا أرادت بقصي كيدا. فزوجه خليل ابنته حتى ولدت لقصي: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي بن قصي بن كلاب.