قال: وكان ابن ذِي يَوَن، سواسمه النعمان بن الحارث بن قَيْس بن مَعْدِي كَرِب بن عبد سيف بن ذي يَزَن. واسمه عامر بن أسلم ابن زيد بن سهل بن عمرو بنقيس بن معاوية بن جُشَم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قَطَن بن عَرِيب بن زُهَيِر بن أيْمن بن الهَمَيَسُع بن حِمْيَر بن سبأ. ومن قبل ذلك بسنين خَرَج حتى قدم على قَيْصَر الروم يستمده على الحبشة، فَمَطَلَهُ قَيْصَر ثلاث سنين، ومال إلى النصرانية، فلما عرف ابن ذي يزن ذلك خرج من عنده حتى قدم على النعمان بن المنذر اللخمي، وكان النعمان يأتي كِسْرى في كُلِّ خمس سنين كَرَّةً فركب معه النعمان حتى دَخَلا على كِسْرى في إيوانه، وتاجه معلق فيه كالقنديل العظيم، مضروب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ. فيعلق في سلسلة من الذهب في رأس إيوانه لأنه كانت عنقه لا تحمل تاجه، إنما تستر بالثياب حتى يجلس مجلسه، ثم يدخل رأسه في تاجه وتكشف الثياب عنه. فلما دخل ابن ذي يَزَنَ من باب الإيوان طأطأ رأسه، فلما سار كسرى كَلَّمه وشَكَا إليه ما هُمُ فيه من الحبشة، وسأله أن يبعث معه جُنْداً لمحاربتهم. قال له كسرى: بَعُدَت بلادك عنا. فقال له ابن ذي يَزَن إنما أريد من الرجال سُمْعَةً بقدر ما يذهب به الصوت فإني لو قَدْ صِرْتُ إلى بلدي لصار إليّ، من الخيل والرجال ما شئتُ فقال له كسرى: أُنْظُرُ في حاجتك. ثم دعا بطعامه وحبس ابن ذي يَزَن يأكُل معه: فوضع كسرى بين يديه بَطَّةٌ ثم قال لرجل من أساورته: خذها فمد يده ليأخذها فضربه ابن ذي يَزَن بالسكين فقطع أصبع الفاريس، وكان ابن ذي يزن حين دخل إلى كسرى فكَلَّمَه سَقْطَت مِخْصَرَتُه من يده، فقطع كلام كِسْرَى حتى أخذ المِخْصَرَة، ثم تكلم. فقال له كسرى: قد فعلت منذ دخلتَ عَلَيَ ثَّلاث خلال ما رأيتُ أعجبَ منهن. قال: وما هنَّ؟ قال: دخلت وأنت رجل قصير وإيواني ذاهب في السماء وطأطأت رأسك ثم دخلت باب الإيوان ثم كلمتني فسَقَطَت مِخْصَرَتُك من يدك فقطعت كلامي حتى أخذتها، وما فعل هذا أحد قط، ثم جلست على طعامي فمدّ رجلّ من أساورتي يده ليأخذ شيئاً مما بين يديك فقطعت أصبعه بسكينك، ما رأيت مثلك! قال ابن ذي يزن: أما قولك طأطأت رأسي فإن همتي أعظم من ايوانك، وأما قطعي كلامك حتى أخذت مخصرتي فإن كلامي بها وما كنت لأتكلم وليس معي مخصرة. وأما قطعي ليد رَجُلٍ من أساورتك فإني ما خرجت من اليمن إلا مخافة أن أُضَام، فكيف أُقَرُّ على الضيم رأي العين. فعجب كسرى من قوله، ثم شاور أصحابه، فقالوا: ما ينبغي أن تنجد هذا الرجل بخيل، وبلده بعيده، وليس لك من الرأي إلا أن تُخْرِج مَنْ في سجونك من الفُرْس وتعطيهم السلاحَ، وتقويهم بالخيل والآلة، ثم وَجِّه بهم مع هذا الرجل، فإن فتحوا فتحا كان ما أردت، وإن قتلوا كان قتل قوم كنت تخافهم على مملكتك. فأخرج كسرى جميع من كان في حبسه من الفُرْس مِمَّن كان يخافهم على مملكته - وكانوا ثمانمائة رجل - وأعد لهم السلاح والآلة، وحملهم على الخيل. ثم قال لابن ذي يَزَن ليس عندي ما أنجدك به غير هؤلاء، فوجه بهم عنده، وولى عليهم ابن عمِّ له كان قد تشغّب عليه يقال له خرزاد بن موسى، من نسل يَهْرَام جُور، وكان رجلا حازما وهو من الأساورة المتقدمين، وقد أتت عليه مائة وعشرون سنة. وسقط حاجباه على عينه. فحملهم في ثمان سفائن، فخرج بهم ابن ذي يزن في البحر فغرق منهم مركبان فيهم مائتا رجل، ونجا منهم ستمائة، وساروا حتى أرست مراكبهم بساحل عَدَن، فلما خرجوا إلى عَدَن كتب ابن ذي يزن إلى اليمن يخبرهم بقدومه ويستنجدهم، وكان أوَل من أمده السكاسك من كندة في جمع عظيم، ونزلت إليه حِمْيَر وهَمْدان من جبالها، فصاروا في أربعين ألفا من اليمن، وصارت الفرس فيهم كالشامة لا يعاونوهم إلا بالاسم. فلما رأي خرزاد بن موسى كثَرَةَ مَنْ صَارَ مع ابن ذي يزن أو حشه ذلك، فقال له: بم تأمرني فإني لا أظن بك إليَّ حاجة؟ قال: بل أنت معي حتى نظفر جميعا أو نموت فسُرَ بمقالته.