ورجع. فلما رأى أبوه هذا منه ومن فعله أخرجه إلى إبل له فيها، ووهب له فرسا ومعها فلو، ووهب له جارية فخرج حاتم فلما رأى طفق يبغى الناس، فلا يجدهم، ويأتي الطريق فلا يجد أحدا، فلما كان كا بصر بركب على الطريق فأتاهم، فقالوا: يا فتى، هل من قِرى؟ فقال: هل من قِرى وأنتم تَرون الإبل أمامكم؟ ميلوا معي. وكان الرَّكب عمر الأبرص، وبشر بن أبي حازم الأسديان، والحطيئة العبسي، وزياد بن وهو النابغة الذبياني - وكانوا يريدون النعمان بن المنذر النعمان بن ماء اللخمي. فنحر لهم حاتم أربعا من إبله. فقال عبيد: ما أردنا الإبل؟ فإن متكلفا فبكرة. قال: رأيت أربعة رجال من بلدان شَتَّى فأجبت أن أنحر زاحد منهم بكرة. فقال عبيد والنابغة وبشر والحطيئة: ليقل كلُّ واحد منا فقالوا مدائح في حاتم لم نوردها ها هنا حذر الإطالة. ومن طريق ما روت الأخبار عن حاتم، ونحن نقول كما قالوا، ونروي كما رووا - قال المهلبي: ذكر لنا أن رجلا أتى معاوية بن أبي سفيان فقال: أخبروني من أسخى العرب؟ فقال له: حاتم اسخى العرب: الأحياء منهم والأموات: فقال له: أسرفت: أما سخاء الأحياء علمناه، فما سخاء الأموات؟ قال: نعم، خرج ركب فمروا بقبر حاتم فنزلوا، فمضى إليه رجلُمنهم ويكنى أبا الخيبري - فصاح بالقبر: أبا عدي ضيافك. فلما كان في السحر وثب أبو الخيبري. وهو الرجل الذي صاح حاتم - فصاح: واراحلتاه. فقال له أصحابه؟ ما شأنك؟ قال: خرج والله بسيفه - وأنا أنظر إليه - حتى عَفَر ناقتي فنظروا إلى راحلته فإذا هي لا. فقالوا له: قد والله أقوك. فنحروا الناقة، وظلوا يأكلون منلحمها. فلما شبعوا أنطلقوا، فبينما هم كذلك في مسيرهم إذ طلع عليهم عَدِيُّ بن حاتم، ومعه جمل أسود وقد قَرَنه ببعيرة، فقال لهم: يا معشر الركب، إن حاتما جاءني في اليَّوم وذكر لي شتمك إياه، وأنه أقرك وأصحابك راحلتك، وأمرني أن أدفع إليك جملا. جملك، ذلك فخذه. وقال في ذلك أبياتا: -
االخيبري وأنت امرؤ ... حسودُ العشيرة لوّامها
ماذا أردت إلى رَّمة ... بداوية قد صدت هامها
في أذاها وإعسارها ... وحولك عوفٌ وأنعامها
فهذا يا أمير المؤمنين أسخى الأحياء والأموات.
وأدرك حاتم الإسلام إلا أنه لم يسلم، ومات نصرانيا.
وقد ذكرت النوارُ امرأته أنها قالت: أصابتنا سنةٌ أقشعرت لها الأرضُ، واغبر أفق الماء، وراحت الإبل جُرْبا جُدْبا، وضَنَّت المراضعُ عن أوردها، فما تنض، وأتلفت السنة المال، وأيقنَّا بالهلاك، فو الله إني لفي ليلةٍ صبيرة بعيدة ما بين، تَتَصايَحُ من الجُوع - عبدُ الله وعديّ وسفانة - فقام حاتم إلى الصبَيَّيْن، وقُمْتُ أنا إلى الصَّبيّة، فو الله ما سَكَتوا إلا بعد هدو من الليل، وأقبل بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلما تهوَّرت النجومُ إذا بشيء قد رَفَعَ كسر الخباء، فقام حاتم: من هذا؟ فقالت: جَارَتُكَ فلانةُ، أتَيْتُك من عند صِبْيِةٍ يتعاوَو} ن عُوَاءَ الذئاب من الجوع، فما وجدتُ مُعَوَّلاً إلا عليك أبا عَدِي. فقال لها: أعْجِلِيهم فقد أشْبَعَك الله وإياهم. فأقبلت المرأةُ تَحْمِلُ اثنين وتُمْشي جانبها أربعة كأنها نعامةٌ حولها ريالها. فقام حاتم إلى فرسه فَوَجأَ لبَّتَهُ بمُدْيِته فَخَّر صريعا، ثم كشطه، ودفع المدية إليّ، ثم قال: شأنك. فاجتمعنا حوله، وأججنا ناراً، وجعلنا نَشْوي ونأكل، ثم جعل حاتم يأتي بَيْتا بَيْتا ويقول: هُبُّوا أيها النُّوَّام، عليكم بموضع النَّار، والتفع هو بثوبه، فو الله ما ذَاق منها مُزْعة واحدة. وإنه لأحوج إليها منا. فلما أصبحنا وما على وجه الأرض من الفَرَس إلا عظم وحافر، وأنشأ في ذلك حاتمٌ يقول شعرا:
مَهْلاً نَوَارُ أقلي اللَّوْم والعَذَلا ... ولا نُقُولي لشيء فاتَ ما فَعَلا
ولا تقولي لمالٍ كنتُ مُهْلِكَه ... مَهْلاً وإن كنُت أَعْطي الحيَّ والحَفَلا
لا تَعْذِلِيني في مالٍ وصلتُ به ... رَحِماً فخيرُ سبيل المال إن أُكِلا
يرى البخيل سبيل المالِ واحِدَة ... إنّ الكريمَ يَرَى في ماله سُبُلاَ