فلما قدم امرؤ القيس قيصر، ودخل عليه انتسب إليه، وقال: أنا من أهل بيت كان لنا الملك على العرب، فغلبنا عليه من نحن اشرف منه. قال: من هو قال: منذر بن ماء السماء اللخمي، وفد رجوتك ان يرد الله علينا ملكنا بك. قال:لم يكن في العجم ولا العرب اجمل من امرئ القيس بن حجر الكندي، فلما كلم قيصر بما اعجبه كلمه ما رأى منه من فصاحته وجماله وعقله وكمال امره، فرفع قدره واكرمه وقربه وزوجه ابنته، ووعده النصرة، وأقام عنده ما أقام - بعدما اتبنى بابنة قيصر، ثم تذكر اهله وما هو فيه فكلم قيصر في ذلك، وطلب منه ما وعده من نصرة له، فجهزه بجيش عظيم، وأعطاه كراعا وسلاحا، وكان عند قيصر رجل من بني اسد يقال له الطماح فلما رأى ما صنع قيصر عند امرئ القيس من كرامة وتقربه أسءه ذلك واغمه، فوشى به إلى قيصر، وقال:اتدري ما يقول هذا العربي؟ قال قيصر: وما يقول؟ قال يقول: إذا ظفرت يبغيتي عطفت على ملك الروم وقتلته، واستلبت ملكه. فلم يتهمه قيصر في قوله ذلك. وقال: هذا رجل جائنا ولا نعرفه، ولم تكن له بنا حرمة، فأكرمناه وزوجناه كريمتنا، واعطيناه جيشا. يدبر في هلاكنا!! فتذمم ان يقتله.
فلما بعث معه الجيش وسار امرؤ القيس وجه قيصر في إثره رجلا من اصحابه معه حلة مسمومة، وقال أقرأ عليه السلام، وقل له ان الملك قد بعث إليك بحلة قد لبسها ليكرمك بها، فإذا غسلت بماء حار فالبسها. وأدخله في الحمام، فإذا خرج منه فألبسه إياها. فأدركه الرجل بالحلة وهو بالحمام بأنقرة، وكان به قروح لا تندمل ولذلك كان يسمى ذا القروح، فدفع اليه الحلة، فلما لبسها تساقط جلده وجميع لحم جسده، وصار قرحه من قرنه إلى قدمه، فلذلك قوله في
لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا
وبدلت قرحا داميا بعد صحة ... وبدلت بالنعماء والخير ابوسا
ثم نزل إلى جنب جبل يقال له عسيب، والى جانبه قبر لبعض بنات ملوك الروم، فسأل عن ذلك القبر فأخبر به. فقال:
اجارتنا ان الحطوب تنوب ... واني مقيم ما اقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيب
فأن تصلينا فالقرابة بيننا ... وإن تهجرنا فالغريب غريب
فلما ايقن الموت قال:
كم طعنة مثعنجرة ... وخطبة مُسحنفرة
وجفنة مدعثرة ... قد غودرت بأنقرة
فمات بأنقرة، ودفن بها، وقبره هنالك، ورجع الجيش إلى قيصر. وله أيضا قبل موته:
تأويني دائي القديمُ فغسلنا ... أُحذار أن يرتد دائي فأنكسا
ألم تَرمِ الدَّار فَعَسعَسا ... كأني أُناجي أو أُكلم أُحرسا
فلو أن أهل الدارِ أضحوا مكانهم ... وجدت مقيلا عندهم ومُعرسا
فلا تنكروني إنني أنا جاركم ... ليالي حَلَّ الحىُّ عولاً فالعسا
فإما تريني لا أغمض ساعة ... من الليل إلا أن أكب فأنعسا
فيارب مكروب كررت وراءه ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا
ويا رب يومٍ قد أروح مُرجلا ... حثيثاً إلى البيض الكواكب املسا
يرعن إلى صوتى إذا ما سمعته ... كما ترعوني عيط إلى صوت اعيسا
أراهن لا يحببن من قل ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوسا
وما خلت تبرج الليالي كما أرى ... يقوم ذراعي أن أقوم فألبسا
وبُدلت قرحا داميا بعد صحةٍ ... فيالك نعمى قد تَحّولن أبؤسا
فلو أنها نَفس تَموت سويَّة ... ولكنها نفسٌ تساقط أنفسا
لقد طمح الطّماح من بُعد أرضه ... ليلبسني من ردائه ما تلبسا
إلا إن بعد العُدم للمرء رقتوةً ... وبعد المشيب طول عُمر وملبسا
وقال أيضا:
أحار بن عمرٍ كأني خَمِر ... ويعدو على المرء ما يأتمر
ألا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعّضى القومُ أني أفر
تَمِيم بن مُرو أشياعها ... وكندةُ حولى جميعا صُبًر