وذلك ان الزبا لما قتلت جذيمة، وفعلت به ما فعلت، سألت كاهنة امرها. فقالت: ارى هلاكك بسبب غلام مهين غير امين. وهو عمرو بن عدي، ولن تموتي الا بيديه. فحذرت واتخذت له نفقا من قصرها في مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها داخل في مدينتها. وقالت: ان فاجاني عمرو دخلت النفق إلى الحصن. وكانت قد صور لها عمرو قائما وقاعدا وراكبا وراجلا.
قال فلما سمع ذلك عمرو من كلام قصير، وما اشار عليه فعل ما امره به. وحمل الرجال في الغرائر على ما وثف له قصير. واقبل قصير يسير الليل ويكمن النهار حتى قربوا من مدينة الزبا. وكان قد ابطأ عليها مجيئه فكانت كل غداة تصعد سطحا لها مشرفا في الهوى، تترءاى له، إلى ان يظهر الوقت ثم تنزل منه إلى اسفل. فلما كان تلك الغداة التي يصبحها فيها قصير اشرفت على سطحها تنظر كما كانت تفعل من قبل، فأبصرت الابل مقبلة ومعها قصير، قد تقدمها، فنظرت إلى الابل تكاد تسوخ قوائمها في الارض من ثقل احمالها. فقالت:
ما للجمال مشيها رويدا ... اجند لا يحملن ام حديدا
أم صرفانا مصمدا عتيدا ... ام رجالا لا جثما قعودا
فلما دخلت الابل المدينة، وعلى الباب بوابون من النبط، وفيهم واحد معه متحسة فطعن بها الجواليق التي تليه، فأصابت خاصرة الرجل الذي فيها، فضرط، فقال البواب: الشر الشر. فلما توسطت الابل المدينة وانتخت. تقدم قصير فدل عمروا على باب النفق، واوقفه عليه، وقد حلت الرجال الجواليق وخرجوا منها فصاحوا باهل المدينة، ووضعوا السلاح، وعمرو قد وقف على باب النفق مصلتا سيفه.
واقبلت الزباء مبادرة تريد النفق، فأبصرت عمرا على باب النفق، فعرفته بالصفة، فمصت سم خاتمها، وكان مسموما. وقالت: بيدي لابيدك يا عمرو. وجللها عمرو السيف فقتلها، واصاب من أهل المدينة، واستباح بلدها، وانكفأ راجعا إلى العراق.
وبقي الملك في آل لخم بعد جذيمة، وسميت الزبا. لانها كانت شعرة البدن. والأزب الكثير الشعر، وبه سميت. ويقولون حرب أزب، يريدون النقا والقنا، جعلوه كالشعر على البدن.
ويقال ان جذيمة ورث ملك بني اخته، واولهم وارثا له عنه عمرو بن عدي بن مرة بن ربيعة بن نصر بن عمرو بن الحارث بن غنم بن نمارة بن لخم ابن عدي بن الحارث بن ادد بن زيد بن الهميسغ بن عمرو بن عريب بن ادد بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وعمرو بن عدي هذا ابن اخت جديمة، هو جد النعمان بن المنذر بن ماء السماء اللخمي.
قال الشرقي بن القطامي، ومحمد بن السائب الكلبيان الراويان، والهيثم بن عدي الطائي، ان جذيمة لعظم شأنه وشرف مكانه، اقتدى به الزنج والهند في ايثار بني الاخت بالميراث على العصبة. وذلك ان جذيمة ورث ملكه وجعله في بني اخته دون والده، وولد اخوته، ايثار لهم.
قال ابن قتيبة كان السبب في ذلك، ان جذيمة كانت له أخت، وكان يقال لها رقاش، وهي ام عمرو بن عدي، وكان احصن إلى جذيمة من اصحابه وقواده، واقربهم منه فتى من سادات بني لخم، يقال له عدي بن ربيعة بن نصر اخته الرقاش، وهو سكران وأجازه اليها. فلما صحا من سكره ندم على ذلك. وامر بعدي بن ربيعة بن نصر، فضرب عنقه وحملت اخته لعمرو بن عدي، فأحبه جذيمة وعطف عليه وانجده كأقرب ولده اليه.
من اجل ذلك استخلفه على ملكه وورثه اياه، وكان من بعده عمرو اريبا عاقلا فملك بعد خاله جذيمة، واستقام له الملك وعظمته الملوك وهابته الملوك. لما كان من حيلته في الطلب بثأر خاله جذيمة حتى ادركه، وكان ملكه نيفا وستين سنة.
ثم بقيت المملكة في هذا البيت من لخم سبعمائة سنة. حتى كان آخر ملوكها النعمان بن المنذر بن ماء السماء اللخمي، وهو النعمان المنذر الاكبر. ابن النعمان بن ماء السماء بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر بن عمرو بن الحارث بن غنم بن نمارة بن لخم.