فأما عاد فإن الله أرسل إليهم نبيه هودا عليه السلام، وكانوا أهل أوثان ثلاثة يعبدونها، يقال لأحدهم صَدّاء والآخر صَمُود والثالث الهباء. فدعاهم إلى توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون غيره، وترك ظُلْم الناس فكذبوه، وقالوا من أشدُّ مِنَّا قوّة؟ فلم يؤمن بهود منهم إلا القليل، فوعظهم هود إذ تمادوا في طغيانهم، فقاب لهم) أتَبْنُونَ بِكُلَّ ريِعٍ آيةً تَعْبَثُون وتتّضخَذُونَ مَصَانِع لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون وإذا بَطَشْتُم بطشتُم جَبَّارِيَن فأتَّقُوا الله وأطِيعُون وأتَّقُوا الَّذي أمَدَّكُم بما تَعْلَمْونَ أمدَّكُمْ بأنْعَامٍ وبنين وجَنَّاتِ وعُيُون إني أخافُ عَلَيْكُم عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم (فكان جوابهم له) سَواءٌ عَلَيْنَا أوَعْظتَ أمْ لَمْ تَكُن مِنَ الوَاعِظين (وقالوا) ياهُودُ مَا جئتنا بَبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتارِكي آلِهَتَنل عَنْ قَوْلِك وَمَا نَحْنُ لَكَ بُمؤمِنِين إنْ تَقُولُ إلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتَنا بِسُوء (فحبس الله عنهم القَطر فيما ذكروا. سنين ثلاثا حتى جهدوا، وتوالت عليهم في تلك الثلاث السنين الريحُ تهبُّ عليهم بغير مطر ولا سحاب، فجمعوا من قومهم تسعين رَجُلاً وبعثوا بهم إلى مكة يستسقون لهم، وكلن سكان مكة في ذلك الوقت العماليق، وعيهم بكر بن معاويى العمليقي، وكان من قصتهم كما ذكر ابن إسحاق. قال: إن عاداً لما أصابهم الله بالقحط ما أصابهم، وجهدوا قالوا: جهزوا منكم وفداً إلى مكة فليستسقوا لكم، فبعثوا قيل بن عنز، ولقيم بن هزال بن هزيل بن عبيل بن ضد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عُفير. وكان مسلما يكتم إسلامه. وجلهمة بن الخبيري خال معاوية بن بكر العمليقي أخا أمه، ثم بعثوا لقمان بن عاد بن عاديا من بني ضد بن عاد الأكبر، فأنطلق كل واحد من هؤلاء القوم ومع كل رجل منهم رهط من قومه حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلا، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر العمليقي وهم بظاهر مكة خارجا من الحرم. فأنزلهم وأكرمهم، فكانوا أخواله وأصهاره، وكانت طويلة بنت بكر أخت معاوية وأمه وأمها بنت الخبيري عند لُقَيْم بن هُزَال بن هزيل بن عبيل بن ضد بن عاد الأكبر، فولدت له عبيد بن لقيم بن هزال بن هزيل، وعمرو بن لُقيم بن هزال وعامر بن لقيم بن هزال، وعمير بن لقيم بن هزال كانوا في أخوالهم بمكة عند معاوية بن بكر العمليقي - وكان مسيرهم شهرا، ومقامهم شهرا، فأقاموا عنده يشربون الخمر وتغيبهم الدرادتان - قينتان لبكر بن معاوية العمليقي - فلما رأى معاوية طول مقامهم. وقد بعث بهم قومهم. يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم سقَّ ذلك عليه، وقال: هلك أخوالي وأصهاري، زهؤلاء مقيمون عندي، وهم أضيافي نازلون عليَّ، والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمُرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه، فيظنوا أنه ضاق بي مقامهم عندي، وقد هلك من قومهم من وراءهم جهداً زعطشاً كما قال، فشكا ذلك من أمرهم قَيْنَتَيْه الجَرَادَتَيْن، فقالتا: قل شِعْرا نغنيهم به، لا يدرون من قاله، لعل ذلك يحركهم. فقال في ذلك معاوية بن بكر حين أشارتا عليه شعرا:
ألا يا قيل قمْ فِينا فَهَيْنهم ... لَعَلَّ الله يصحبنا غماما
وقد يسقى أرض عادٍ إن عاداً ... قدَ أمْسوا لا يبينون الكَلاما
من العطش الشديد فليس نرجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كلنت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم أيَامَا
وإن الوحش تأتيهم جهارا ... ولا تخشى لِعَادِيةٍ سِهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتَهَيْتُم ... نهاركم وليلكم نياما
فقبح وفدكم من وفد قومٍ ... ولا لقي التحيَّة والسَّلاما
قال فلما قال معاوية ذلك الشعر غنتهم به الجرادتان، فما سمع القوم ما غنتا به قال بعضهم لبعض: ياقوم، إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم. فقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم هودا سُقيتُم. فأظهر إسلامه عند ذلك، فقال لهم جُهْلَمة بن الخبيري خال معاوية بن بكر حين سمع قوله وعرف أنه قد تبع دين هود وآمن به: