ومن الأمثلة: قول الله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ... (٩٦)} [النّحل] فقد استعمل الفعل {يَنْفَدُ} لأنه يدل على انتهاء ما يملكه البشر ويتجدد برزق الله لهم، واستعمل الاسم {بَاقٍ} ليدل على استمرار بقاء ما عند الله.
قلت: ولم يقل الله تعالى: وما عند الله يبقى؛ إذ لو قال ذلك لأفاد أنّ بقاء ما عند الله مقيّد بزمن، وصدق الله القائل: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢)} [النّساء] فهذه واحدة من الأسرار اللغويّة العجيبة في التّراكيب.
ويتّضح الفرق في الخطاب بين الاسم والفعل في قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ... (٣)} [فاطر] فلو قيل: (رازقكم) هكذا باسم الفاعل لَفَاتَ ما أفاده الفعل من تَجَدُّد الرِّزق شيئاً بعد شيء، ولهذا جاءت الحال في صورة الفعل المضارع لدلالته على التجدّد والحدوث. وأوضح من ذلك قوله تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦)} [يوسف] ولم يقل: (باكين) لأنّ الفعل المضارع أفاد تجديدهم للبكاء شيئاً بعد شيء، وهذا سِرُّ الإعراض عن اسم الفاعل.
دعوى الاختلاف في الحديث الشّريف
وزعموا أنّ هناك تعارضاً بين الحديث الشّريف والقرآن الكريم، مثل ما رواه مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قارِبُوا وسدّدوا واعلموا أنّه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: يا رسول الله، ولا أنت، قال: ولا أنا إلاّ أن يتغمّدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ "(١).
قالوا: كيف الجمع بين حديث صحيح صريح نصّ على أنّ الإنسان لا يدخل الجنّة بعمله، وآية في كتاب الله تعالى تقرّر أنّ الإنسان يدخل الجنّة بعمله، قال تعالى: {ادْخُلُوا
(١) مسلم " صحيح مسلم بشرح النّووي " (م ٩/ج ١٧/ص ١٦٠) كتاب صفة القيامة.