والجواب أنّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يشكّ ولم يسأل، والخطاب وإن كان موجهاً للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فإنّ المراد به غيره، وهو أسلوب معروف من أساليب الخطاب وله شواهد، ومَنْ دَرَسَ علوم القرآن عرف ذلك.
قولهم: تَرَكَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأولى والأفضل فعاتبه ربُّه ـ عزّ وجلّ ـ
وخلاصة احتجاجهم أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عاتبه الله تعالى على قبوله الفداء من أسرى بدر، وعاتبه على قبوله أعذار المتخلّفين عن غزوة تبوك، كما عاتبه على إخفاء أمر زواجه من زينب ـ رضي الله عنها ـ، وعلى انشغاله عن ابن أمّ مكتوم الأعمى بدعوة كبار المشركين؟!
وهذه المسائل الّتي يثيرونها للاستدلال على عدم عصمة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ليست شيئاً؛ فما نُسِب للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من ترك الأولى والأفضل، ليس فيه شيء من إثبات الذّنب والمعصية، فالنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الذّنوب جميعاً قبل النُّبوَّة وبعدها على التّحقيق.
وما وقع به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن سهو أو تأويل، لا يتعدّى كونه أُمُورٌ هَيِّنات لتؤكِّد بشَريَّته أمام الخلائق، فبعض المسائل كان أمرها متروكاً لاجتهاد الرّسول - صلى الله عليه وسلم - بالرّأي؛ لأنه لم يُوحَ إليه فيها بشيء، فكان اجتهاده ـ المأذون به شرعاً ـ يؤدّي به إلى الحسن متعدّياً الأحسن، وإلى الفاضل تاركاً الأفضل، فيرشده الله بعد ذلك إلى ما هو أولى وأتمّ وأكمل. وهذه المسائل في حقّ غيره ليست بذنب، وإنما عُوتِبَ عليها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كما أجاب علماؤنا بالنَّظر لقدر منزلته - صلى الله عليه وسلم - من معرفة الله تعالى.
أمّا اجتهاده في أسرى بدر، فبعد أن استشار أصحابه، مَالَ إلى رأي أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وقبل الفداء منهم، فنزل قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨)} [الأنفال] وهذا منسوخ بقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ... (٤)} [محمّد].