وبعد ذلك بيّن الله تعالى أنّ الكفّار سيظلّون إلى يوم القيامة يشكّكون ويضلّلون، ولن تضرّنا شبهاتهم في شيء، قال تعالى:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا} هكذا بصيغة المضارع لإفادة التجدّد والاستمرار {فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} أي في شكٍّ من القرآن وتشكيكٍ فيه {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥)} [الحجّ].
أقلّوا الّلوم على العلماء، أو سدّوا المكان الّذي سدّوا!
ورواية الغرانيق ابتلاء قديم، وقد أمضى الله علينا الابتلاء قدراً، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣)} [العنكبوت] وأكّد الله ذلك في السّورة نفسها، فقال: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (١١)} [العنكبوت].
قلت: ولكنّنا مأمورون بدفعه شرعاً؛ ولذلك تعرّض لهذه الرّواية بالنّقد غَيْرُ عالم من العلماء القدماء والمُحْدَثِين الرّاسخين في معرفة علوم الحديث رواية ودراية؛ لكنّهم لم يسلموا من الّلوم ممّن جاء بعدهم، فهذ ا ينتقد القاضي عياض على مأخذه الثّاني في هذه المسألة، لأنّ القاضي كان له في الكلام على مشكل هذا الحديث في كتابه (الشّفا) مأخذان: أحدهما في توهين أصله وأنه حديث لم يخرّجه أحد من أهل الصّحة ولا رواه ثقة بسند سليم، وساق الأدلة على ذلك، والثّاني على تسليمه، أي التّسليم بصحَّة الحديث افتراضاً، واستعاذ بالله من صحَّته، وجَمَعَ الأدلَّةَ على بطلانه عقلاً ونقلاً، وذلك على افتراض صحّته.
ونحن لا ننكر على عالم أن يتعقّب القاضي على هذا التّسليم، لكن أن يوصف رأيه بأنّه ردّة في الفكر، ونكوص عن الحقّ، وأنّ القاضي قد نكص على عقبيه (١)، فإنّ مثل هذا التّعبير
(١) قول محمّد الصّادق عرجون ـ رحمه الله ـ قال: " وكان القاضي بنكوصه على عقبيه واستنزاله قلمه = = وفكره إلى حمأة الفروض والأوهام منتظماً في عقد من أبطلوا القصّة الكاذبة المتزندقة الغرنوقيّة، ثمّ ارتدّوا على أدبارهم إلى مزالق التّأويل المحرّف المنحرف ... " (محمّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (م ٢/ص ١٣٨) ونقل عنه ذلك محمّد بيّومي في كتابه (عظمة الرّسول - صلى الله عليه وسلم -) (ص ٣١٢).