أي لولا حُكْمٌ من الله سبق بإحلال ذلك لكم، لأصابكم في أخذ الفداء من الأسرى قبل أن تؤمروا عذابٌ عظيم، والآيات فيها عتاب للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على أخذ الفداء قبل أن يكثر القتل والقهر في العدو، ويبالغ فيه.
ولم يوجّه الله ـ تبارك وتعالى ـ العتاب للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، وإنّما عرّضَ به تلطّفاً به - صلى الله عليه وسلم - ألم ترَ أن الله تعالى قال:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} والمراد نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - وقال:{تُرِيدُونَ} ولم يقل: تريد. وإنّما عتب عليه لعلو مكانته عند الله؛ وإلَّا فقد استقرّ حكم الله في النِّهاية على رأيه، فقد وافقه الله تعالى آخراً، قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)} [الأنفال] والمعنى: أنَّ الله قد أحلّ لكم الفداء، وأنّه تبارك وتعالى غفور لما أخذتم من الغنيمة قبل حِلِّها، رحيم بكم إذ أحلَّها لكم.
وفي صحيح مسلم عن عمر رضي الله عنه قال:" ... فلما أسروا الأسارى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبيّ الله هم بنو العمّ والعشيرة، أرى أن تأخذَ منهم فدية، فتكون لنا قوَّةٌ على الكفّار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ترى يا بن الخطّاب؟ قلتُ: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنّي أرى أن تمكّنا فنضرب أعناقهم، فتمكّن عليّاً من عقيل، فيضرب عُنُقَه، وتمكّني من فُلان ـ نسيباً لعمرَ ـ فأضرب عُنُقه، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر، ولم يَهْوَ ما قلت، فلمّا كان من الغد جئت، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله، أخبرني من أيّ شيء تبكي أنت وصاحبُك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت، لبكائكما. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبكي للذي عرض عليّ أصحابُك من أخذهم الفداء، لقد عُرِضَ عليّ عذابُهم أدنى من هذه الشّجرة ـ شجرة قريبة من نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله ـ عزّ وجلّ ـ:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} فأحلّ الله الغنيمة لهم "(١).
(١) مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي" (م ٦/ج ١٢/ ص ٨٥) كتاب الجهاد والسير.