للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أمّا قبول النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعذار المتخلّفين عن غزوة تبوك، قبل أن يعرف ذوي العذر في التخلف ممّن لا عذر له، فهذا من اختيار النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - للمفضول من أمرين مباحين، ثمّ يوجّه الله نبيّه إلى الأفضل منهما، قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣)} [التوبة].

ومن توهّم أنّ العفو لا يكون إلا عن ذنب أذنبه - صلى الله عليه وسلم - وأنّ العفو إثبات للمعصية أو المخالفة، فالجواب، أنّ معنى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} أي لم يُلْزِمكَ ذنْباً.

ثمّ انظر إلى الآية كيف ابتدأت بالعفو تَوْقيراً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورَفْعَاً من شأنه، لأنه كريم على الله، ألم تر أنّ الله قدم العفو على العتاب، وإنما عاتب الله نبيّه لقصور الاجتهاد عن بلوغ درجة الكمال، فالله تعالى يعلّمه الكمال في الاجتهاد، فهو عفو خاص يليق بمقام النُّبوَّة، كذلك فإنّ الله أكرم من أن يعود في عفوه.

أمّا ما قيل في عتاب الله تعالى له في إخفائه أمر زواجه - صلى الله عليه وسلم - من زينب ـ رضي الله عنها ـ، وكانت تحت زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ! وما قيل في خشيته - صلى الله عليه وسلم - قَالَةَ النّاس ولائِمَتَهُم، والله أحقّ أن يخشاه، كما قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ... ... (٣٧)} [الأحزاب].

فالجواب، أنّ الّذي حمله - صلى الله عليه وسلم - على إخفاء ذلك خشية أن يرجف المنافقون فيقولون: تزوج امرأة ابنه، فقد كان مُتَبنَّاه قبل نزول تحريم التبنّي، وكان يدعى زيد بن محمّد، فاستشعر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه لو أظهر ذلك لَعَابَهُ مَنْ في قلبه مرض من النّاس، وهذا قد يُحدِثُ تأثيراً في إيمان العامّة، وهذا دليل على أنّ خشية النّاس المشار إليها في الآية لم تكن خشية على نفسه، وإنّما خشية في الله، ولعلّ ما يؤيّد ذلك أنّ الله تعالى أثنى بعد ذلك على الأنبياء الماضين، فقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٣٩)} [الأحزاب]، فإذا كان هذا شأن الماضين، فما بالك بشأن خاتم النَّبيِّين، وسيِّد

<<  <   >  >>