للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اعتقاد كلّ منهما أنّه على الحقّ، فإنّ هذا يَنْشَأُ عنه عذرهما، فكلّ منهما معذور بتأويله لأنّه متأوّل تأويلاً سائغاً عن وجه في العلم معتقداً أنّه على الحقّ، فلا أحد منهما آثم، بل كلاهما مأجور؛ فلم يقع بينهما ما وقع إلاّ عن اجتهاد، ولذلك أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنّ دعواهما واحدة ليظهرَ عذْرُهما، فلم يكن أحدهما يقاتل الآخر وهو يظنُّ أنَّ الحقَّ ليس بيده، ولو كان ذلك كذلك ما شهد لهما - صلى الله عليه وسلم - أنّ دعواهما واحدة، وهذا ينتجُ عنه عذرهما ووجوب حسن الظّن بهما.

ويؤيّد هذا ما أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدريّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " في حديث ذكر فيه قوما يخرجون على فُرْقة مختلفة يقتلهم أقرب الطّائفتين من الحقّ" (١).

قُلْتُ: وانظر إلى اسم التّفضيل " أقرب " وما يوحي إليه هذا اللفظ، فاسم التّفضيل يدلّك على أنّ المفضَّل والمفضَّل عليه اشتركا في صفة واحدة، وهي القرب من الحقّ، ولكن أحدهما زاد فيها على الآخر فكان الأقرب إليه، وهو عليّ وأصحابه لأنّهم قاتلوهم وأمكنهم الله منهم، فالحديث فيه تصريح بأنّ الطّائفتين تشتركان في صفة الحقّ وأنّ الطّائفتين مؤمنون لا يخرجون بما جرى بينهم عن الإيمان، بل يبقون على كمال إيمانهم وعدالتهم.

فإن قال قائل: فقد حَكَمَ عليهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالبغي، وأخبر أنّ عماراً يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النّار؟!

فالجواب أنّ البغي ليس اسمَ ذَمٍّ وقدح وتنقيص لهم؛ لأنّ الباغي المجتهد المتأوّل تأويلاً سائغاً غير قطعيّ البطلان معذور في اجتهاده ومأجور. ولا ريب في أنَّ الحديث حجَّة جازمة في أنَّ علياً ـ رضي الله عنه ـ كان مصيباً، لكنّ الفئة الأخرى مجتهدة فلا إثم عليها، والحديث فيه معجزة للنّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لوقوع ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -.

وقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ " تقتلك فئة باغية" (٢) لا يفهم منه أنّ فئة معاوية تتحمّل دمه؛ فما جاء مطلقا في هذا الحديث الشّريف، جاء مقيّداً في حديث آخر ـ


(١) مسلم " صحيح مسلم بشرح النّووي " (م ٤/ج ٧/ص ١٦٨) كتاب الزّكاة.
(٢) مسلم " صحيح مسلم بشرح النّووي" (م ٩/ج ١٨/ص ٤٠) كتاب الفتن.

<<  <   >  >>