للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال، ثم قال: ما هذا الشعر؟ فقلت: لا أدري! فقال: هذا هو المستطرد، -أو قال الاستطراد- قال: قلت: فما معنى ذلك؟ قال يريد وصف الفرس، وهو يريد هجاء عثمان.

٦٦ قال محمد بن يحيى: فاحتذى هذا البحتري، فقال في قصيدة يمدح بها محمد بن علي القمي، ويصف فيها الفرس كامل:

وأغر في الزمن البهيم محجل ... قد رحت منه على أغر محجل

كالهيكل الجني، إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل

ملك العيون فإن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل

ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوماً خلائق حمدويه الأحول

٦٧ قال أبو علي: حمدويه هذا، كان عدواً للمدوح.

فاستطرد به في شعره، وهو من أصحاب البحتري، وقيل له إنه مستعاب بهذا البيت، قال: ولم!؟ قالوا: "لأنك سرقته من أبي تمام"، فقال: "أعاب على أخذي من أبي تمام؟! والله ما قلت شعراً قط إلا بعد أن أخطرت شعره بفكري" قال: "فأسقط البيت من بعد فليس يكاد يوجد في أكثر النسخ".

[٦٨ قال أبو علي: وأبو تمام إنما أخذ هذا الاستطراد من قول الفرزدق طويل:]

كأن.. الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرفت أفواه بكر بن وائل

فقد تعاور هذا المعنى طائفة من الشعراء قديماً، وحديثاً، وأول من ذكره السموأل وكل آخر تبع له، في قوله طويل:

وإنا أناس ما نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول

يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول

[٦٩ ومن بديع هذا الباب قول الآخر طويل:]

خليلي من كعب أعينا أخاكما ... على دهره، إن الكريم معين

ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين

إذا جئته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين

٧٠ وأتى جرير بهذا فحثا في وجوه السابقين إلى هذا المعنى، فضلاً عمن تلاهم، فإنه استطرد باثنين في بيت واحد، وهجا فيه واحداً فقال بسيط:

لما وضعت على الفرزدق ميسمى ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

[٧١ قال أبو علي: ويعترض في هذا خبر أنا ذاكره:]

حكى أصحابنا: أن حماد عجرد لما هجا بشارا فقال طويل:

نسبت لبرد وأنت لغيره ... فهبك لبرد.. أمك من برد

وذكر راوية بشار، إنه لما سمع هذا البيت، بكى، وقال ماله لعنه الله! كنت أحوم حول هذا المعنى لأفخر به فلا يطردني، إلى أن سبقني إليه. وليس له، وإنما أراد قول جرير: "لما وضعت على الفرزدق ميسمى" وذكر البيت.

٧٢ قال أبو علي: هذا عندي خبره، فيستحيل مثله عن بشار، إذ لا يشبه من بيت جرير شيئاً البته، وإنما أخذه من قول الأول:

أساير.. بنكر.. حقاً بيننا ... ولا عن.....

[٧٣ قال أبو علي وقد يقع من هذا الاستطراد ما يخرج به من ثم إلى مدح كقول زهير بسيط:]

إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كن الجواد على علاته هرم

[٧٤ أو يستطرد من مدح إلى ذم كقول بكر بن النطاح يمدح مالك بن طوق طويل:]

عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى، فقالت: قم فجئني بكوكب

فقلت لها هذا التعنت كله ... كمن يشتهي من لحم عنقاء مغرب

سلي كل أمر يستقيم طلابه ... ولا تذهبي يا بدر بي كل مذهب

فأقسم لو أصبحت في عز مالك ... وقدرته ما نال ذلك مطلبي

فتى شقيت أمواله بسماحه ... كما شقيت قيس بأرماح تغلب

[أحسن ما قيل في التشبيه]

٧٥ قال أبو علي: أجمع أهل العلم بالشعر كأبي عمرو بن العلاء، والأصمعي، وغيرهما، بأن أحسن التشبيه ما يقابل به مشبهان بمشبهين، فإن أحداً لم يقل في ذلك أحسن من قول امرئ القيس طويل:

كان قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي

شبه القلوب رطبة، بالعناب، ويابسة، بالحشف البالي، وإنما خص القلوب لأنها أطيبها، فإذا صادت الطير جاءت بقلوبها إلى أفراخها، قال الأصمعي: "إذا كانت الطير تزق منها، فهو أسرع لطيرانها"، وزعم بعض أصحابنا: أن الجارح لا يأكل شيئاً من قلوب الطير، وإنما خص القلوب لبقائها في وكر العقاب، تلك التي ذكرها.

<<  <   >  >>