للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال عبد الملك: "أنت يا مسلمة أقربهم إلى الصواب، ولكن إذا ذرفت عيناها وجداً به، فقد اتفقا في الحب ولم يبق إلا اللقاء، وإنما ينبغي للشاعر أن يكتسي منها الجفاء والمنه، ويكسوها المودة والهوى، أما مؤجلكم في هذا البيت ثلاثة أيام على أن لا تسألوا عنه أحداً، وإنما أبلوكم لأعلم كيف بصركم بالشعر، ولمن أتى به منكم حكمه" فخرج سليمان في بعض الثلاثة أيام ينبسط -أي يتنزه- فسمع ذا، بأعرابي يسوق ماعزاً له، وهو يقول بسيط:

لو حز بالسيق رأسي في مودتها ... لمر يهوي سريعاً نحوها راسي

فقال سليمان: صدق والله، هو، هو" فقال: "علي بالأعرابي" فأتى به، فقال: "من يقول هذا الشعر؟ " فقال: "عمر العذري" فوكل سليمان بالأعرابي، ثم رجع إلى أبيه فأنشده البيت، فقال عبد الملك: "أصبت ومن يقوله؟ " فقال: "عمر العذري" وحدثه بحديث الأعرابي فأمر بإحضاره، فأحضره، فقال له عبد الملك: "عمر!؟ فمن هو؟ " قال: "من عذرة" فقال: "عبد الملك لله درهم ذهبوا بحلو الحب ومره" فقال عبد الملك لسليمان: "قل حاجتك، ولا تنسى الأعرابي" قال: "أما الأعرابي فإني أصيره في سماري وصحابتي، وأما حاجتي فقد عقد أمير المؤمنين للوليد من بعده، فإن ود أن يوليني من بعد الوليد فليفعل". فسر بذلك عبد الملك، لم أرآه في طلبه معالي الأمور، فقال: "فقد أجابك أمير المؤمنين إلى ذلك، وإلى غيره فسل" فقال: "يا أذن لي أمير المؤمنين في الحج ويوليني الموسم" فقال: "قد فعل ذلك وأمر لك بألفي ألف درهم، تقتسمها مع أهل مكة والمدينة" فحج بالناس سليمان سنة إحدى وثمانين.

٥٢٧ أخبرنا علي بن الحسين قال: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء عن أحمد بن عبيد قال أخبرنا أبو عبيدة قال: أخبرنا عوانة بن الحكم وأبو يعقوب إسحاق الثقفي أن الوليد بن يزيد قال لأصحابه ذات ليلة: "أي بيت قالته العرب أعزل؟ " فقال بعضهم: قول جميل طويل:

يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقتها فيعود

وقال آخر: بل قول ابن أبي ربيعة بسيط:

كأنني يوم أمسي لا تكلمني ... ذو بغية يبتغي ما ليس موجوداً

قال: فقال الوليد بل قول جميل طويل:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذاً لسعيد

لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل عندهن شهيد

فجعل حديثهن بشاشة، وقتيلهن شهيداً، وليس بعد هذا غاية.

٥٢٨ أخبرني عيسى بن عبد العزيز الطاهري: قال: أخبرنا أبو الحسن الدمشقي قال أخبرني الزبير بن بكار قال حدثني خالد بن وضاح عن عبد الأعلى بن عبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي قال: "حملت ديا بعسكر المهدي، فركب المهدي يوماً، بين أبي عبد الله وعمر بن مزيغ وأنا وراءه في موكبه، على برذون، قطوف، فقال: (ما أنسب بيت قالته العرب؟) فقال أبو عبيد الله: قول امرئ القيس "ما ذرفت عيناك إلا لتقدحي" وذكر البيت فقال هذا أعرابي قح، فقال له عمر بن مزيغ بل كثير يا أمير المؤمنين طويل:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل

فقال: ما هذا بشيء، وما له يريد أن ينسى ذكرها حتى تمثل له؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، عندي حاجتك جعلني الله فداك قال: الحق بي فقلت لا لحاق بي، ليس ذلك في دابتي، فقال احملوه على دابة، قلت هذا أول الفتح، فحملت على دابة فلحقت فقال ما عندك؟ قتل قول الأحوص طويل:

إذا قلت أني مشتف من لقائها ... وحم التلاقي بيننا زادني سقما

فقال: أحسن والله، اقضوا دينه، فقضي ديني.

٥٢٩ أخبرنا أبو محمد قال أخبرني أحمد بن يحيى عن الأثرم عن أبي عبيدة قال: قال عبد الملك بن مروان وعنده الوليد وسليمان ذات يوم: "أي بيت أرق وأمتن؟ " فقال الوليد: قول امرئ القيس "وما ذرفت عيناك" وذكر البيت، وقال سليمان قول كثير "أريد لا أنسى ذكرها" وذكر البيت، فقال: قاتل الله الأعرابي حيث يقول طويل:

دعون الهوى حتى ارتمين قلوبنا ... بأعين أعداء وهن صديق

[٥٣٠ قال أبو علي: هذا البيت لجرير، وقد أخذه أبو نواس فأحسن قوله طويل:]

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق

ويقال أن المأمون قال: "لو نطقت الدنيا لما نطقت إلا ببيت أبي نواس" وذكر البيت.

<<  <   >  >>