فقال المأمون: حدثني هشيم عن مجاهد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها، وجمالها، كان في سداد من عوز" وفتح السين، قلت صدق هشيم، يا أمير المؤمنين! حدثني عوف عن الحسن أن البني صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان في ذلك سداد من عوز" وكسرت السين، وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال: يا نضر! السداد بالفتح لحن؟! فقلت هو في هذا المكان لحن، وإنما لحنه هشيم لأنه كان لحانة، فقال: ما الفرق؟ فقلت: السداد بالفتح: القصد والتسهيل. والسداد بالكسر: البغلة وما يسد به الشيء، قال: هل تعرف العرب ذلك؟ قلت: هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان يقول وافر:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فأطرق المأمون ملياً، ثم قال: "قبح الله من لا أدب له" ثلاث مرات، قم قال: أنشدني أخلب بيت للعرب، قلت قول ابن بيض يا أمير المؤمنين "تقول لي والعيون هاجعة" وذكر البيت، فقال المأمون "لله درك لكان سبق إذا عن بالي ثم قال: هات أنشدني أقنع بيت قالته العرب، قلت قول ابن عبدل منسرح:
لا أحتوي عللة الصديق ولا ... أتبع نفسي وجداً إذا ذهبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنس رحلاً ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والر ... حل، ومن لا يزال مغتربا
فلم يكلمني عندها بشيء، وأخذ القرطاس، ومد يده إلى دواة، وجعل يكتب ما لا أعمله، ثم قال: يا نضر، كيف تأمر إذا أمرت أن يترب الكتاب؟ قلت: أتربه! قال" فمن الطين؟ قلت: طنه، قال: وهذه أحسن من الأولى، ثم ناول الكتاب الخادم، ومضى به إلى الفضل بن سهل، ففتح الكتاب، وقال: ما السبب الذي وصلك به أمير المؤمنين بخمسين ألفاً؟ فأخبرته، فقال لي: سبحان الله! ألحنت أمير المؤمنين؟! قتل: كلا أيها الوزير، وإنما لحنه هشيم لأنه كان لحانة، فقال: حدثني عن الخليل، قلت: قال الخليل: "أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا، فرد علينا السلام وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين، ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جنبه: يقول لكم ارتفعوا، فقال الخليل: هو من قول الله تعالى ثم استوى إلى السماء، وهي دخان" فصعدنا إليه، فقال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟ فقلت: الساعة فارقناه! فقال: سلاماً، فلم ندر ما هجير، وماء نمير؟ فقلت: الساعة فارقناه! فقال: سلاماً، فلم ندر ما قال؟ فقال الأعرابي: إنه يقول لكم شأنكم شاركة لا خير فيها ولا شر. فقال الخليل: هو من قول الله عز وجل "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" فقال الفضل: هذا أحسن مما قتله للخليفة، فزاني من عنده ثلاثين ألفاً، فانصرفت بثمانين ألفاً".
قال أبو علي: قوله استوى: ارتفع، خطأ، لأنه، لم يكن عز وجل قبل ذلك في سفل فارتفع، والوجه أن معنى قوله تعالى "استوى": استولى. وينشدون رجز:
قد استوى بشر على العراق ... بغير سيف ودم مهراق
[أحسن ما قيل في حب الأوطان]
٥٤٩ أخبرنا محمد بن يحيى قال: أحسن ما قيل في الرضى بالأوطان، أو محبتها ما أنشد فهي يحيى بن علي وغيره، وأجمعوا على تقدمه، وهو قو امرأة من العرب طويل:
بلاد بها حل الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
وقال ابن ميادة طويل:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بحرة ليلى حيث ربتني أهلي
بلاد بها نيطت على تمائمي ... وقطعن عني حين أدركني عقلي
فإن كنت عن تلك المواطن ما نعي ... فأيسر على الرزق واجمع إذا شملي
٥٥٠ أخبرنا محمد بن عبد الواحد قال أخرنا أحمد بن يحيى قال أخبرني عبد الله بن درستويه: قال حدثني حفص بن الأوذع الطائي قال: كنت أسير ببلاد طيء فأبصرت جارية تسوق مهرانها فقلت: يا جارية، أي البلاد أحب إليك؟ قالت طويل:
أحب بلاد الله ما بين منعج ... إلي وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها حل الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
٥٥١ أخبرنا محمد بن يحيى قال: لم يكشف قناع الحي المعنى في حب الوطن ولا جاء بالعلة التي من أجلها له تحب، إلا ابن الرومي، فإنه جمع ما فرقه الناس، فقال في أبيات قصيدة يخاطب بها عبيد الهل بن عبد الله بن طاهر طويل: