فجعل للشمال يداً وزماماً، قال أبو العباس: هذا حسن، وغير أحسن منه وقد أخذه من قوله ثعلبة بن صعير المازني كامل:
فتذكرا ثقلاً رثيداً بعدما ... ألقت ذكاء يمينها في كافر
قال: وقول ذي الرمة أعجب إليّ منه وإن تأخر زمانه طويل:
ألا طرقت ميي هيوماً بذكرها ... وأيدي الثريا جنح للمغارب
فقال بعضهم: بل قول لبيد كامل:
ولقد حميت الحي تحمل شكتي ... فرط وشاحي إذ غدوت لجامها
فقال أبو العباس: هذا حسن ولكن يعدل عنه إلى قول لبيد فقال آخر: قول الهذلي كامل:
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت ... إليه المنايا عينها ورسولها
قال أبو العباس: هذا بديع، وأبدع منه في استعارة لطيفة، لفظ (الاستيداع) في قول الحصين بن الحمام المري لأنه جمع الاستعارة والمقابلة في قوله الطويل:
نطاردهم نستودع البيض هامهم ... ويستودعونا السمهري المقوما
فقال بعضنا: بل قول ذي الرمة الطويل:
أقامت به حتى ذوى العود في الثرى ... ولف الثريا في ملاءته الفجر
فقال أبو العباس: هذا لعمري نهاية الخيرة، وذو الرمة أبدع الناس استعارة، إلا أن الصواب، "حتى ذوي العود والثرى "بواو النسق، لأن العود لا يذوي ما دام في الثرى قال محمد بن يحيى الصولي: فكأنه نبهني على ذي الرمة، فقلت: بل قوله الطويل:
ولما رأيت الليلَ، والشمس حية ... حياة الذي يقضي حشاشة نازع
فقال أبو العباس: اقتدحت زندك يا أبا بكر فأورى! هذا بارع جداً. ولكن سبقه إلى هذه الاستعارة جرير، وبيته أحسن بقوله بسيط:
تحيي الروامس ربعها فتجده ... بعد البلى، وتميته الأمطار
قال أبو العباس: هذا بيت جمع الاستعارة، والمطابقة، لأنه جاء فيه بالإحياء والإماتة، والبلى والجدة، ولكن ذو الرمة قد استوفى ذكر الإحياء والإماتة في موضع آخر وأحسن في قوله الطويل:
ونشوان من طول النعاس كأنه ... بحبلين من مشطونة يترجح
إذا مات فوق الرجل أحييت روحه ... بذكراك، والعيس المراسيل جنح
قال أبو بكر: فما أحد انصرف من ذلك المجلس، إلا وقد غمره من بحر أبي العباس، في علم الشعر، وحسن تصرفه فيه، والكلام عليه، ما غاض معينه، ولم ينهض إلا بعد ما زودنا من بره، وملاطفته، نهاية ما اتسعت به حاله.
[أحسن ما ورد في الوحي والإشارة]
١٤أخبرنا محمد بن عبد الواحد، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، قال: كان ابن الأعرابي يتعجب من قول ارطأة بن سهية الطويل:
فقلت لها يا أم بيضاء إنه ... هريق شبابي واستشن أديمي
قال أبو علي: ولا أعلم استعارة أبدع من هذه.
[١٥ قال أحمد بن يحيى: وأنا أقول: إنه من بارع الاستعارة قول الآخر يصف ناقته كامل:]
فوضعت رحلي فوق ناجية ... يقتات شحم سنامها الرجل
[١٦ قال أبو علي: وأبدع بيت قيل في الاستعارة، قول الآخر يصف سحائب طويل:]
إذا ما هبطن الأرض قد مات عودها ... بكين بها حتى يعيش هشيم
لأنه جمع لطيف الاستعارة، وحسن الطباق في قريب من العبارة.
١٧ أخبرنا أبو علي، قال: أخبرني علي بن هرون، قال: أخبرني أبي هارن بن علي عن حماد بن إسحاق، وتشير إلى أنها من محاسنة، فما هي: قال: قول الشاعر بسيط:
أوردته وصدور العيس مسنفة ... والليل بالكوكب الدري منحور
وقول الآخر وافر:
جعلنا السيف بين بين الجيد منه ... وبين سواد لحييه عذار
ثم قال: ألا ترى إلى قوله "أوردته وصدور العيس مسنفة" وقد أشار إلى الفجر إشارة ظريفة بغير لفظه!؟ قال: ثم قال لي: هذا هو الوحي.
ومثاله قول جاهلي.
جعلت يدي وشاحاً له ... وبعض الفوارس لا يعتنق
قال: فقوله "جعلت يدي وشاحاً له" إشارة بديعة بغير لفظ الاعتناق، وهي دالة عليه.
١٨ قال أبو علي: وحكي عن عيسى بن عبد العزيز الطاهري، قال: جمعني وقدامة الكاتب مجلس، ولم أر أفرس منه في بيت شعر، فسألته عن الإشارة فقال: "هي اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة، باللمحة الدالة" فقلت: أذكر أحسن ما يحضرك في ذلك؟ فقال: لم يأت أحد بمثل قول زهير وافر:
فإني لو لقيتك فاتجهنا ... لكان لكل منكرة كفاء
قال وقول امرئ القيس طويل: