وكان أبو عبيدة يسمي هذين البيتين "درتي الغواص" لأن الدرة إذا أصابها الغواص لم يصب مثلها، حتى ينفق في طلبها أضعاف ثمن التي أصاب، وهذان البيتان قتلا خلقاً كثيراً، كان أحدهم ينقض رأسه يتمثل بهما، ثم يخرج -زعم- يطلب أن يتمول، فيقتل ألف قبل أن يتمول واحد.
٢٥٠ قال أبو علي: وأشرد مثل قيل في رياضة النفس، وملها على القناعة بالبلغة قول أبي ذؤيب الهذلي كامل:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
قال أخبرنا أبو علي عن محمد بن يحيى عن أبي العيناء، قال: سمعت الأصمعي يقول: "إني لأعجب كيف لم يقل إن أشعر بيت قالته العرب (والنفس راغبة إذا رغبتها) وذكر البيت.
٢٥١ قال أبو علي: واشرد بيت قيل في اختيار قرناء الصدق، وماثلة مذهب كل واحد منهم بمذهب قرينه، قول عدي بن زيد طويل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتدي
أخبرنا أبو علي أخبرهم أبو الحسن العروضي عن محمد بن أحمد الأسدي عن الحسن بن عليل العنزي قال حذثني عقبة بن قبيصة بن السؤاي قال حدثني علي بن عبد الحميد الشيباني قال أخبرنا مندل عن الحن البصري قال: قال رسول الله: "كلمة ابن ألقيت على لسان شاعر- فإن القرين بالمقارن مقتد".
[٢٥٢ قال أبو علي: وأشرد مثل قيل في العتذار من الفرار قول الحارث بن هشام كامل:]
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل، ولا يضرر عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طعماً لهم بلقاء يوم مفسد
وروي خلف الحمر "رصداً لهم" وأنكر "طعماً".
٢٥٣ أخرهم أبو علي قال أخبرنا ابن أبي غسان عن الفضل بن الحباب عن محمد بن سلام قال: أخبرنا أبان عن عثمان البجلي قال: لما طلب عبد الرحمن محمد بن الأشعث إلى كابل هربا من الحجاج. قال له ملكها: "طلبت أمراً عظيماً، وفررت منه مرة ها هنا، ومرة ها هنا" قال، فقال له "أيها الملك أما سمعت قول شاعرنا؟ " قال: وما قال؟ فأنشد قول الحارث بن هشام المتقدم وفسره له، فقال: "يا معشر العرب حسنتم كل شيء، حتى حسنتم الفرار".
[٢٥٤ وقال خلف الأحمر: بل قول مسرة بن أبي وهب المخزومي أشرد في هذا المعنى طويل:]
لعمرك ما وليت ظهري محمداً ... وأصحابه جنباً ولا خيفة القتل
ولكنني قلبت أمري فلم أجد ... لسيفي غنى أني ضربت ولا نبلي
وقفت فلما خفت ضيعة موقفي ... رجعت لعود كالهزير أبي الشبل
٢٥٥ قال أبو علي واشرد مثل قيل في التعزي عن الحظ الفائت قول البعيث المجاشعي: طويل:
فلا تكثرن في إثر شيء ندامة ... إذا نزعته من يديك النوازع
أخبرنا أبو علي، أخبرنا عبد الله بن جعفر عن محمد بن يزيد قال قال العتبي: كنا عند خلف الأحمر، ومعه الأصمعي، فجعل يتلهف على أشياء فاتته، فقال خلف: "ما أحسن ما أدبا به البعيث لو قبلنا منه" وأنشدهم البيت.
٢٥٦ أخبرهم أبو علي عن عبيد الله بن أحمد النحوي عن محمد بن الحسن عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، قال: كتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم: "أما بعد، فإني أكتب إليك في أمر أنا أعلم به منك، وأبلغ قولاً، ولكنني أريد أن أبلو ما عندك، فلا ترين يا ابن أم قتيبة أني أحتاج إليك فأسألك، لفضل ما عندك، فلا تحدثين نفسك بذلك، فتعجب بها. أخبرني عن ثلاثة أبيات، وهي أمثال قد حفظها الناس، من قائلوها؟ فأما البيت الأول فهو سريع:
لا تسكع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
والقائل طويل:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بنيها، ولم ترقع بذلك مرقعا
والقائل وافر:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوز إلى ما تستطيع
وأخبرني عن أشعر شعرائنا اليوم، وأخبرني عن أشعر شعراء الجاهلية، والإسلام. وإياك يا ابن أم قتيبة أن تدليك العصبية في الأهوية، فإني ناظر "أين يقع كتابي من قولي، ثم عاره على أهل العلم إن شاء الله".