للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا أجعل الأعوام حادثة ... تخبر عن عيسى بن إبراهيم لي بعد

- وقد أحسن وهب الهمذاني في قوله خفيف:

واطلب الريف يا نديمي والر ... ريف من الأرض حيث إسماعيل

- وأحسن البحتري في قوله كامل:

سقيت رباك بكل نوء جاعل ... من وبله حقاً لها معلوماً

ولو أنني أعطيت منهن المنى ... لسقيتهن بكف إبراهيما

١٨٠ قال أبو علي: أخبرني عبد الله بن جعفر بن درستويه، قال: (قال لي البحتري -وقد اجتمعنا على سلوة عند أبي العباس المبرد، وسلكنا مسلكاً من المذاكرة- "أشعرت أني سبقت النس كلهم إلى قولي طويل:

شقائق يحملن الندى فكأنه ... دموع التصابي في خدود الخرائد

كأن يد الفتح بن خاقان أقبلت ... تليها بتلك البارقات الرواعد

قال: "فاستحسن ذلك المبرد استحساناً اعترف فيه وقال: (ما سمعت بمثل هذه الألفاظ الرطبة، ولا بمثل هذه العبارة العذبة، لأحد تقدمك، ولا تأخر عنك) ". فاعترته أريحية جر بها رداء العجب.

١٨١ قال أبو محمد "فكأني أعجبني ما يعجب الناس من المراجعة في القول، فقلت: يا أبا عبادة إنك لم تسبق إلى هذا المعنى، بل سبقك إليه سعيد بن حميد الكاتب إلى البيت الأول بقوله كامل:

عذب الفراق لنا غداة وداعنا ... ثم اجترعناه كسم ناقع

فكأنما أثر الدموع بخدها ... طل سقيط فوق ورد يافع

-وشركك فيه أبو العباس الناشيء لما أنشد هذا قال متقارب:

بكت للفراق فقد راعني ... بكاء الحبيب لبعد الديار

كأن الدموع على خذها ... بقية طل على جلنار

-وما أساء علي بن العباس الرومي بقوله -بل زاد في إحسانه عليك- منسرح:

لو كنت يوم الفراق حاضرنا ... وهن يطفئن لوعة الوج

لم تر إلا دموع باكية ... تهجع من مقلة على خد

كأن تلك الدموع قطر ندى يقطر من نرجس على ورد وسبقك أبو تمام إلى معنى البيتين معاً بقوله كامل:

من كل زاهر ترقرق بالندى ... فكأنها عين إليك تحدر

تبدو، ويحجبها الجحيم كأنها ... عذراء تبدو مرة وتخطر

خلق أطل من الربيع كأنه ... وجه الإمام وهديه المتنشر

في الأرض من عدل الإمام وجوده ... ومن الربيع الغض مرج تزهر

ينسى الربيع وما يروض فعله ... أبداً على طول اليالي يذكر

قال: "فشق ذلك عليه، وحل حبوته ونهض، فكان آخر عهدي بمؤانسته، وغلظ ذلك على محمد بن يزيد، وقدح في حالي عنده".

١٨٢ قال أبو علي وجمعني ورجلاً من مشايخ البصرة -ومن يومأ إلى مجلسه بالشعر- مجلس بعض الرؤساء، وكان خبر ذلك الشيخ، سبق إلي في عصبيته لبحتري، وتفضيله إياه، على أبي تمام، ووجدت صاحب المجلس، يؤثر سماع كلامنا في هذا المعنى، فأنشأت قولاً، أنحيت فيه على البحتري إنحاء، أسرفت فيه، واقتدحت زناد الشيخ به، فتكلم، وتكلمت.

وخضنا في أفانين من التفضيل، والمماثلة، فعلوته في جميعها علواً شهده من حضر المجلس. وكانوا جلة الوقت، وأعيان أهل الأدب بالبصرة.

١٨٣ فاضطر إلى أن قال: "ما يحسن أبو تمام يبتدئ، ولا يخرج ولا يختم، فلو لم يكن للبحتري من فضل عليه، إلا حسن ابتداءاته، ولطف خروجه، وبراعة انتهائه، لوجب أن يقع التسليم له، فكيف بأوابده التي تزداد على التكرار حظوة وجدة؟! " ثم أقبل علي وقال: "فأيت يذهب عن ابتداءاته؟ كامل:

عاضننا أصلاً فقلنا: الربرب ... حتى أضاء الأقحوان الأشنب

-وأني لأبي تمام بمثل خروجه حيث يقول طويل:

أدارهم الأولى بدارة جلجل ... سقاك الحيا روحاته وبواكره

وجاءك يحكي يوسف بن محمد ... فروتك رياه وجادك ماطره

-وقد كرر هذا، وزاد فيه بقوله بسيط:

تنصب البرق مختالاً فقلت له ... لوجدت جود بني يزداد لم تزد

-ومن هذا هذا الذي ألطف مخرجاً؟ من وصف روض، إلى مدح! فقال أحسن من قوله؟! طويل:

كأن سناها بالعشي لصاحبها ... تبلج عيسى حين يلفظ بالوعد

-الناس كلهم طويل:

أتتك القوافي نازعات قواصداً ... يسير ضاحي وشيها وينمنم

ومشرقة في النظم غراً يزيدها ... بهاء وحسناً أنها لك تنظم

-وقوله في هذا المعنى طويلي:

ألست الموالي فيك نظم قصائد ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما

<<  <   >  >>