٤٥٤ أخبرنا عبيد الله بن أحمد قال أخبرنا محمد بن الحسن قال أخبرنا الرياشي قال أخبرنا العتبي عن رجل من قيس عيلان قال: "كان الأعشى يوافي عكاظ في كل سنة وكان المحلق الكلابي مملقا مؤنساً، فقالت له امرأته: "يا أبا كلاب! ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر؟ فما رأيت أحداً أقطعه إلى نفسه إلا أكسبه خيراً" قال: "ويحك! ما عندي إلا ناقتي، وعليها الحمل! " قالت: "إن الله عز وجل يخلفها عليك"، قال "فهل لك من شراب؟ ومسوح" -أي طبيب- قالت "إن عندي ذخيرة لي ولعلي إن أجمعها لك فتلقه قبل أن يسبق إليه أحد" فلقيه -وابنه يقوده- وأخذ الخطام، فقال "ومن هذا الذي غلبنا على خطامنا؟ " قال "المحلق! " قال "شريف، كريم" فأناخ به فنحر له ناقته وكشط له عن سنامها وكبدها ثم سقاه، فأحاط به بناته يغمزنه ويمسحنه، فقال "من هؤلاء الجواري حولي؟ " قال "بنات أخيك، وهن ثمان" فقال "لئن بقيت لهن لأدعهن شريدتهن قليلة" وخرج ولم يقل فيه شيئاً ووافى عكاظ فإذا هو بسرحة، وقد اجتمع الناس إليها، وإذا الأعشى ينشد طويل:
وإن امرءأ بيني وبينه ... ومن الأرض موماة وبيداء سملق
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفق
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تشب لمقرورين بصطيانها ... وبات على النار الندى والمحلق
رضيعاً لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحم داج عوض لا نتفرق
فسلم عليه المحلق، فقال: "مرحباً، بسيد قومه! " ونادى بالعرب: "هل فيكم مبكر" يروح إليه الشريف الكرمي؟ " فما قام من مقعده، وفيهن إلا مخطوبة.
٤٥٥ أخبرنا عبد الله بن جعفر قال: سمعت محمد بن يزيد يقول: "من حسن المدح وحر الكلام قول الأعشى في هذه القصيدة:
ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه ... كما زان متن الهندواني رونق
أبا مسمع، صار الذي قد صنعتم ... فأنجد أقوام بذاك وأعرقوا
وإن عتاق العيس سوف يزوركم ... ثناء على أعناقهن معلق
به تنفض الأحلاس في كل منزل ... وتعقد أطراف الحبال وتطلق
٤٥٦ أخبرني عبد الله بن جعفر قال أخبرنا محمد بن يزيد قال من ألفاظ العرب البينة، الفخمة، القريبة، المفهمة قول الحطيئة طويل:
ووذاك فتى إن تأته في صنيعة=إلى ما له لا تأته بشفيع ١- وقول عنترة كامل:
يخبرك من شهد رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
٤٥٧ وقال المبرد: ومن الشعراء من يجمل المديح، فيكون ذلك وجهاً من وجوهه حسناً، لبلوغه الإرادة، مع خلوه من الإطالة، وبعده عن الإكثار ودخوله في الاختصر، وذلك قول الحطيئة طويل:
تزور امرءاً يؤتى على الحمد ما له ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد
يرى البخل لا يبقى على المرء ما له ... ويعلم أن المرء غير مخلد
كسوب ومتلاف إذا ما سألته ... تهلل واهتز اهتزازاً المهند
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندنا خير موقد
وقد تصرف في أبياته، هذه، في أصناف المديح وأتى بجماع الوصف، وحمله المديح على سبيل الاقتصاد في البيت الآخير.
١- ومن ذلك قول الشماخ وافر:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيران منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة بالمين
٢- ومن أجمل ما قيل في هذا المعنى قول أبي دهبل كامل:
عقم النساء فما يلدان شبيهه ... إن النساء بمثله عقم
متقدم لنعم، ل"لا" متأخر ... سيان منه الوفر والعدم
نزر الكلام من الحياء، نخاله ... ضمناً، وليس بجسمه سقم
٤٥٨ قال أبو علي: وما أحسن أبياتاً أنشدناها أبو عمر عن ثعلب يعترض في أثنائها هذا المعنى طويل:
تخالهم للحلم، صماً عن الخنا ... وخرساً عن الفحشاء عند التهاتر
ومرضى إذا لوقوا، حياء وعفة ... وعند الحروب كالليوث الخوادر
لهم عز إنصاف وذل تواضع ... بهم ولهم ذلت رقاب الجبابر
كأن لهم وصفاً يخافون عاره ... وما وصفهم إلا اتقاء المعاير
١- وقد أخذ هذا البيت الأخير من قول ليلى الأخليلية كامل:
لا تقربن الدهر آل محرق ... إن ظالماً أبداً وإن مظلوماً
قوم رباط الخيل حول بيوتهم ... وأسنة رزق تخال نجوما