للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٧٦ قال أبو علي: وأخبرني الصولي عن أبي العيناء قال: قال بشار: "مازلت منذ سمعت قول امرئ القيس (كأن قلوب الطير رطباً) وأنا أراود نفسي أن أقابل مشبهين بمشبهين فلا أستطيع ذلك، إلى أن قلت طويل:

كأن مثال النفع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

فشبهت النقع بالليل، والسيوف بالكواكب قال بشار: ولا بأس أيضاً بشيء قلته في هذا المعنى، فأوردته في أقرب لفظ، بسيط:

من كل مشتهر في كف مشتهر ... كأن غرته والسيف نجمان

قال: "فشبهت غرة الفضل والسيف بنجمين".

[٧٧ فقال أبو علي: فانبعث مسلم فقال لهم بسيط:]

في جحفل تشرق الأرض الفضاء به ... كالليل أنجمه القضبان والأسل

فأخذه منصور الثمري فقال بسيط:

ليل من النقع لا شمس ولا قمر ... إلا جبينك والمذروبة الشرع

فقال العتابي بسيط:

تهمي سنابكها من فوق أرؤسهم ... سقفاً كواكبه البيض المباتير

٧٨ قال أبو علي: وقد استكثر الشعراء من التشبيه ومهروا فيه وفي أفانينه، ولم يخل شاعر قديم منه.

٧٩ والآن، أذكر لمعاً من محاسنه التي وقع الإجماع على أنها أبدع ما قيل فيه، تتعلق بالحفظ، وتتصل بالمحاضرة بإذن الله ومشيئته.

٨٠ قال أبو علي: أخبرني أبو عبد الله الحكيمي قال: أخبرني أحمد ابن يحيى قال: حدثنا الزبير عن الأصمعي، قال:

استدعاني الرشيد في بعض الليالي وقد تصرمت قطعة من الليل. فراعني رسله، ولم أفتأ أن مثلت بحضرته، فإذا في المجلس يحيى بن خالد، وجعفر، والفضل، فلما لحظني الرشيد استدعاني، فدنوت، فتبين ما بنفسي من الوجل فقال لي "ليفرخ روعك فما أردناك إلا لما يراد له مثلك" فمكثت هينئة إلى أن أبت إلى نفسي، بعد أن كادت تطير شعاعاً، فقال: "إني نازعت هؤلاء القوم- وأشار إلى يحيى، وجعفر، والفضل -في أشعر بيت قالته العرب في التشبيه، ولم يقع إجماعنا على بيت نركن إليه دون غيره. فأردناك لفصل هذه القضية، واجتناء ثمرة الصواب فيها "فقلت: "يا أمير المؤمنين، إن التعيين على بيت واحدٍ، في نوعٍ، قد توسعت العرب فيه، والقصر عليه صعب ولكن أحسن الناس تشبيهاً امرؤ القيس، قال في ماذا؟ قلت: في قوله طويل:

كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي

"وقوله" طويل:

كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب

"وقوله" متقارب:

ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد

"وقوله" طويل:

سموت إليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال

قال: فالتفت إلى يحيى، فقال: "هذه واحدة -وقد نص على أن أمرأ القيس أبرع الناس تشبيهاً -قال يحيى: "هني لك يا أمير المؤمنين.

"قال: ثم قال لي الرشيد: فما أبرع تشبيهاته عندك؟ قلت: قوله يصف فرساً" متقارب:

كأن تشوفه بالضحى ... تشوف أزرق ذي مخلب

إذا بز عنه جلال له ... يقول سليب ولم يسلب

قال: فقال الرشيد: "هذا أحسن، وأحسن منه قوله طويل:

فرحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ... تصوب فيه العين طوراً وترتقي

[٨١ قال: فقال جعفر: "يا أمير المؤمنين! ما هذا هو الحكيم.]

"قال: فقال الرشيد: "وكيف!؟ " قال: "يذكر أمير المؤمنين، ما كان اختياره وقع عليه، ونذكر ما اخترناه، ويكون الحكم واقعاً من بعد، "قال: فقال الرشيد: "أفرض! "، "قال الأصمعي" فاستحسنتها منه، يقال افرض الرؤوس: إذا قارب الصواب، "قال: ثم قال الرشيد: "بل تبدأ يا يحيى، "فقال يحيى: "أشعر الناس تشبيهاً للنابغة في قوله كامل:

نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العود

وفي قوله طويل:

فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتآى عنك واسع

وفي قوله بسيط:

من وحش وجرة موشي أكارعه ... طاوى المصير كسيف الصيقل الرد

٨٢ قال الأصمعي: "قلت أما تشبيهه مرض الطرف فحسن إلا أنه قد هجنه بذكر العلة، وتشبيهه المحب بالعليل، والأحسن قول عدي بن الرقاع العاملي كامل:

وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم

وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم

<<  <   >  >>