استقر المهاجرون في المدينة المنورة، ودخل أغلب الأوس والخزرج في الإسلام، وتحولت المدينة كلها إلى مجتمع متكامل، خال من الصراع، بعيد عن الضلال والضياع واستسلم الجميع لحكم الله تعالى، وأنزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بما يليق به، فحكموه في كل ما عن لهم، وأخذوا برأيه في سائر ما وجههم إليه, وبذلك ظهر المجتمع الإسلامي بخصائصه، ومزاياه التي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لإيجادها في واقع الحياة، ولقد قدم هذا المجتمع صورة فريدة في دنيا الناس، لم تسبق، ولم تلحق، لقد صنع من الضعفاء قوة، ومن الفقر غنى، ومن التشرذم والضياع رجالا عرفوا الحقيقة، وتمسكوا بها، فعاش الحق لهم وسار بهم، وصاروا أمثولة رائعة، ومثالا تجريبيًا لمن يريد حياة الكرامة والعزة والرقي.
ومسلمو اليوم أحوج الناس إلى معرفة هذا المجتمع العظيم ليتأسوا به فهم خلوفه، وهو سلفهم ... وكل ما هم فيه من هوان وضياع يجب أن يعيدهم إلى ماضيهم الخالد عساهم أن يتذكروا، وعساهم أن ينتفعوا.
إن عوامل صناعة المجتمع المدني بعد الهجرة ليست أمورًا فوق الطاقة، ولكنها أمور تحتاج إلى الصدق معها، ولا بد فيها من إيمان يستلزم العمل بها، وإلى معرفة واضحة لمجموعة من الأشياء التي لا بد منها في الحياة الإسلامية وهي:
- معرفة الله تعالى معرفة تؤكد حقه على العبيد، وحق العبيد عليه ليقوم الناس بما عليهم، وينالوا ما لهم.
- تقرير مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، ومعرفة دور ما تركه من وحي في النشاط، والخلق، والسلوك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستقبل الوحي ليبقى فكرة مجردة، وإنما حولها بالإيمان إلى طاقة عملية، وحركة شاملة في أعمال الناس وأخلاقهم، وصبغ صلى الله عليه وسلم بما أنزل عليه كل الحياة في المدينة المنورة، لتتأسى به كل المجتمعات بعد ذلك.
- ضرورة التزام الإنسان بتعاليم الإسلام، وبخاصة الإنسان المسلم ... حتى لا يتحول الإسلام إلى فكرة للتثقيف المجرد، وليبق الدين كما كان في مجتمع المدينة، قواعد للسلوك، وضوابط للعمل، ومنهجًا يسير الأحياء، وينظم الحياة في كافة جوانبها، وحتى نستفيد بمجتمع المدينة المسلم نحاول الوقوف على ملامحه الرئيسية التي بها كان مجتمعًا إسلاميًا، وصار أسوة للناس أجمعين.