لم يغب تشريع الجهاد مطلقًا عن مصلحة الناس، ومراعاة واقعهم العملي، حيث رأيناه في مكة لم يكلف المسلمين بجهاد، وإنما أمرهم بالصبر، والعفو لقلة عددهم وضعف أحوالهم، وغلظة أعدائهم، وفي نفس الوقت لم يوجه لومًا لمسلم ينتصر لنفسه ضد بغي وقع عليه، إذا رأى الانتصار ممكنًا، ولا يؤدي إلى ضرر أكبر.
وقد تحدث الوحي عن الجهاد بالإذن فيه، أو بالأمر به، ليعلم أهل مكة ومن يشايعهم أن قضية الإسلام لم تنته بالهجرة إلى المدينة، ولكن الحقيقة أن الهجرة تؤكد أن مرحلة جديدة قد بدأت، وأنها ستكون أقوى من سابقتها، وأن الاستقامة على الحق ضرورة واجبة، والدعوة إلى الله أمر لن يتوقف، وأن قوة المسلمين ستكون في خدمة الدعوة دائمًا، وستبقى في حماية الحركة بالإسلام.
وقد تحقق في عالم الواقع أن أهل مكة وقبائل العرب وغيرهم أدركوا هذا الأمر وتيقنوا أن الإسلام تحميه قوة المسلمين، ويبلغه للعالم رجال يبذلون له كل ما يمكنهم من نفس ومال، وعمل.
حين شرع الله للمسلمين أن يتصدوا للظلم والعدوان عرفهم أن ذلك هو الجهاد. الذي كلفوا به، في إطار نظام متكامل يتضمن الدعوة أولا، ويتمسك بالخلق الحسن في كافة مراحله، ويملأ المجاهد بحب الجهاد، وحب الموت في سبيل الله.
وبإعلان الإسلام للجهاد نظامًا له منهجه، وهدفه، علم العرب جميعًا مدى حب المسلم لدينه، ومدى ربطه سعادة الآخرة بعمل الدنيا، ومدى تمنيه الموت مجاهدًا في سبيل الله تعالى, وهذا أمر يدفع الناس إلى التفكير الجاد في شأن الإسلام، ورجاله، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أظهر تشريع الجهاد إيجابية الإسلام في معالجة مشاكل الناس، فالمسلم لا يجاهد لكسب مادي، وإنما يجاهد لضمان حرية الإنسان في التفكير، وصيانة عقله من الغوغائية والتسلط، وإزاحة الظلم والاستبداد من عالم الناس، وهذا شأن يجب أن يذكر به الجهاد الإسلامي.
إن العالم الحديث يلزم الأقوياء، والأغنياء بمعاونة الضعفاء، والمحتاجين في إطار مجموعة من النظم، والمواثيق، والمؤسسات الدولية، وذلك شاهد يؤكد عظمة تشريع الجهاد، وسبق الإسلام في تكليف المسلمين بقهر الظلم ودفع البغي، وإزاحة الطواغيت لقد تصدى الإسلام لأناس تألهوا على الناس، واستعبدوا البشر، وحولوا الأحرار إلى قطعان