للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا١.

إن الوثنية التي عاشها الأوس والخزرج كانت هزيلة، بحيث لم تتمكن من تحمل ضغوط الإيمان، ولم يتحمس أحد من أهل المدينة ليصنع للأصنام هالة, أو ينشئ لها مكانًا مقدسًا، ولم تجد الأصنام فريقًا يعمل لحمايتها، والدفاع عنها، كما هو الحال في مكة، فلما جاءهم الإسلام أسرعوا إليه، وتخلصوا من الأصنام تخلصًا كليًا، وارتبطت نفوسهم بالله حتى كأنهم ولدوا في الإسلام، وعايشوه من زمن طويل، وما كان اتخاذهم للأصنام، وتوجههم نحوها إلا رمزًا يتشبهون به بغيرهم، لتكون لهم آلهة, كما كان لغيرهم, ولعل هذا الصمت التاريخي عن مصير آلهة الأوس والخزرج بعد الهجرة يفسر مدى هوان هذه الأصنام عند أهل يثرب، وعدم الارتباط بها، وسرعة وشمولية التخلص منها بعد دخولهم في دين الله تعالى.

إن الإسلام جاء إلى المدينة، بعد لقاء العقبة الأول، وحملة مصعب بن عمير رضي الله عنه أول داعية أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى، وقد قام مصعب بمهمته خير قيام، فانتشر الإسلام في كل بيوت المدينة، خلال مدة لم تدم أكثر من عام واحد، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها قرآن يتلى، وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف٢.

إن سرعة انتشار الإسلام في المدينة وإن كان بسبب ما فيه من الوضوح والسماحة والعدل والانسجام مع تكوين الإنسان ونشاطه وأهدافه، وبسبب همة مصعب بن عمير رضي الله عنه في الدعوة بصدق وإخلاص، حيث أخذ يحرك الأفئدة بالقرآن ويلين العواطف بتلاوته البهية، ويقنع العقول بالحق، ويرضيها وهو يعرض عليها آيات الله في الأنفس والآفاق، مع كل هذا فإن من أكبر العوامل التي ساعدت على هذا الإيمان السريع ووضعية أهل المدينة بالنسبة للأصنام، فلم يحدث أن عارضوا مصعبًا، أو دافعوا عن أصنامهم، أو جادلوا حول ألوهيتها، وإنما آمنوا بالله مسرعين لشعورهم بما في ألوهية الأصنام من ريب وشك.


١ سيرة النبي ج١ ص٤٢٨.
٢ سيرة بن هشام ج١ ص٤٣٧.

<<  <   >  >>