للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ، وَلَوْ جَازَ بَيَانُ التَّغْيِيرِ مُتَرَاخِيًا لَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ أَصْلًا لِجَوَازِ أَنْ يَقُولَ: مُتَرَاخِيًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَبْطُلُ يَمِينُهُ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ.

(وَطَرِيقُهُ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ فَقُلْنَا الْكَلَامُ إذَا تَعَقَّبَهُ مُغَيِّرٌ تَوَقَّفَ عَلَى الْآخَرِ فَيَصِيرُ الْمَجْمُوعُ كَلَامًا وَاحِدًا كَمَا ذُكِرَ فِي الشَّرْطِ) أَيْ: فِي فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ كَلَامٌ وَاحِدٌ أَوْجَبَ الْحُكْمَ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ غَيْرِهِ.

(وَاخْتُلِفَ فِي التَّخْصِيصِ بِالْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِحُّ مُتَرَاخِيًا، وَعِنْدَنَا لَا بَلْ يَكُونُ نَسْخًا) أَيْ: الْمُتَرَاخِي لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا بَلْ يَكُونُ نَسْخًا.

(لَهُ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ) أَيْ: قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: ٦٧] يَعُمُّ الصَّفْرَاءَ وَغَيْرَهَا ثُمَّ خُصَّ مُتَرَاخِيًا وَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَقَرَةٌ مَخْصُوصَةٌ (وقَوْله تَعَالَى {وَأَهْلَكَ} [هود: ٤٠] فِي قَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: ٢٧] «وقَوْله تَعَالَى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: ٩٨]

ــ

[التلويح]

دَلِيلَ النَّسْخِ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ الِاسْتِقْلَالِ، وَالْمُقَارَنَةِ فِي التَّخْصِيصِ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ مَعَ أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي التَّخْصِيصِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إنَّمَا هِيَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَالشَّرْطُ، وَالصِّفَةُ، وَالْغَايَةُ، وَيَدُلُّ الْبَعْضُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ لَهُمْ الْجَرْيُ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لِتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ صَارَ ظَنِّيًّا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ مُقَارِنٍ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ ثُمَّ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ التَّرَاخِي جَارٍ فِي كُلِّ ظَاهِرٍ يُسْتَعْمَلُ فِي خِلَافِهِ كَالْمُطْلَقِ فِي الْمُقَيَّدِ، وَالنَّكِرَةِ فِي الْمُعَيَّنِ وَلِهَذَا صَحَّ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيَّةِ بِقِصَّةِ الْبَقَرَةِ، وَإِلَّا فَلَفْظُ بَقَرَةٍ نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ الْعُمُومِ فِي شَيْءٍ.

وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ وَرَدَ بَيَانُهُ مُتَرَاخِيًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُمْ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: ٦٩] لِلْبَقَرَةِ الْمَأْمُورِ بِذَبْحِهَا وَلِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا ثَانِيًا بِمُتَجَدِّدٍ وَبِأَنَّ الِامْتِثَالَ إنَّمَا حَصَلَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَالْجَوَابُ مَنْعُ ذَلِكَ بَلْ الْمَأْمُورُ بِذَبْحِهَا كَانَتْ بَقَرَةً مُطْلَقَةً عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ رَئِيسُ الْمُفَسِّرِينَ لَوْ ذَبَحُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ لَأَجْزَأَتْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ.

وَقَدْ دَلَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: ٧١] عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْفِعْلِ، وَأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ التَّعْيِينِ كَانَ تَعَنُّتًا وَتَعَلُّلًا ثُمَّ نَسَخَ الْأَمْرَ بِالْمُطْلَقِ، وَأَمَرَ بِالْمُعَيَّنِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى النَّسْخِ قَبْلَ الِاعْتِقَادِ، وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ جَمِيعًا إذْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِالْوَاجِبِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَالْبَيَانِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْوَاجِبَ بَقَرَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَالتَّرَدُّدُ إنَّمَا وَقَعَ فِي التَّفْصِيلِ، وَالتَّعْيِينِ.

(قَوْلُهُ: فِي قَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَاسْلُكْ)

<<  <  ج: ص:  >  >>