للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نُقِلَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَأَنْتَ قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ الْيَهُودُ عَبَدُوا عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَبَنُو مَلِيحٍ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا بَلْ هُمْ عَبَدُوا الشَّيَاطِينَ الَّتِي أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: ١٠١] » يَعْنِي عُزَيْرًا وَعِيسَى وَالْمَلَائِكَةَ.

(خُصَّتَا مُتَرَاخِيًا) أَيْ: خُصَّتْ الْآيَتَانِ تَخْصِيصًا مُتَرَاخِيًا، وَهُمَا قَوْله تَعَالَى {وَأَهْلَكَ} [هود: ٤٠] وقَوْله تَعَالَى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: ٩٨] (بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: ٤٦] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: ١٠١] قُلْنَا فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ نُسِخَ الْإِطْلَاقُ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ يَجُوزُ ذَبْحُ أَيِّ بَقَرَةٍ شَاءُوا ثُمَّ نُسِخَ هَذَا، وَالْأَهْلُ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لِلِابْنِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَتَّبِعُ الرَّسُولَ لَا يَكُونُ أَهْلًا لَهُ، وَلَوْ سَلَّمْنَا تَنَاوُلَهُ لَكِنْ اسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَنْ سَبَقَ} [هود: ٤٠] فَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَهْلِ الْأَهْلُ قَرَابَةً حَتَّى يَشْمَلَ الِابْنَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: ٤٦] أَيْ: مِنْ الْأَهْلِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، وَإِنْ أُرِيدَ الْأَهْلُ إيمَانًا فَاسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ تَحْقِيقُهُ أَنَّ الْأَهْلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَهْلُ إيمَانًا أَوْ الْأَهْلُ قَرَابَةً فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَوَّلُ لَا يَتَنَاوَلُ الِابْنَ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ فَالِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: ٤٠] عَلَى هَذَا مُنْقَطِعٌ وقَوْله تَعَالَى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: ٤٦] لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِعَدَمِ تَنَاوُلِ الْأَهْلِ الِابْنَ الْكَافِرَ.

وَإِنْ أُرِيدَ

ــ

[التلويح]

أَيْ: أَدْخِلْ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْحَيَوَانِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَأَدْخِلْ فِيهَا نِسَاءَكَ، وَأَوْلَادَك ثُمَّ خَصَّ ابْنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: ٤٦] .

(قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ) فَذَهَبَ الْبَعْضُ وَجُمْهُورُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهَا تَعُمُّ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ مَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ لَمَا أَوْرَدَ ابْنُ الزِّبَعْرَى هَذَا السُّؤَالَ، وَهُوَ مِنْ الْفُصَحَاءِ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ وَلَمَا سَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَخْطِئَتِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا أَوْرَدَهُ تَعَنُّتًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَوْ التَّغْلِيبِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَعْبُودَاتِهِمْ الْبَاطِلَةِ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْعُقُولِ فَغَلَّبَ جَانِبَ الْكَثْرَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّغْلِيبَ أَيْضًا نَوْعٌ مِنْ الْمَجَازِ.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ «مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا لِمَا لَا يَعْقِلُ» فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} [الأنبياء: ١٠١] لِدَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ لَا لِتَخْصِيصِ الْعَامِّ.

(قَوْلُهُ: وَأَصْحَابُنَا قَالُوا) إنَّ الْخِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْمُسْتَقِلِّ بَيَانُ تَغْيِيرٍ عِنْدَنَا وَبَيَانُ تَفْسِيرٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ رَدُّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ التَّخْصِيصِ بِالْمُسْتَقِلِّ وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَيَانُ تَفْسِيرٍ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَا فِي جَوَازِ التَّرَاخِي بِنَاءً عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَعَدَمِهِ، وَأَقْوَالُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ الْمُسْتَقِلِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مَجْمُوعُ الْأَفْرَادِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>