للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَكَرْنَا فِي الْمَتْنِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا قَالَهُ الْحُكَمَاءُ، وَالتَّمْثِيلُ بِعَيْنِهِ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْحِكْمَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْعَقْلَ عَلَى جَوْهَرٍ مُجَرَّدٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالصَّرْفِ، وَقَدْ ادَّعَوْا أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْجَوْهَرُ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقْلُ» فَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا التَّعْرِيفِ هَذَا الْجَوْهَرُ الَّذِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ مِنْ أَوَائِلِ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنُّورِ الْمُنَوَّرِ كَمَا فُسِّرَ فِي قَوْله تَعَالَى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: ٣٥] وَأَيْضًا قَدْ يُطْلَقُ الْعَقْلُ عَلَى الْأَثَرِ الْفَائِضِ مِنْ هَذَا الْجَوْهَرِ فِي الْإِنْسَانِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا التَّعْرِيفِ هَذَا الْمَعْنَى، وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُدْرِكَةٌ بِالْقُوَّةِ فَإِذَا أَشْرَفَ عَلَيْهَا

ــ

[التلويح]

فَقَالُوا: هُوَ نُورٌ يُضِيءُ بِهِ طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ دَرْكُ الْحَوَاسِّ فَيَتَبَدَّى الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ فَيُدْرِكُهُ الْقَلْبُ بِتَأَمُّلِهِ، وَبِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ بِهَا يَنْتَقِلُ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ إلَى النَّظَرِيَّاتِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ هَذَا التَّفْسِيرِ أَخْفَى مِنْ الْعَقْلِ احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى تَوْضِيحِهِ، وَتَبْيِينِ الْمُرَادِ مِنْهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَقْلِ هَاهُنَا ذَلِكَ الْجَوْهَرُ الْمُجَرَّدُ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى أَنْ يَكُونَ النُّورُ بِمَعْنَى الْمُنَوِّرِ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا الِاحْتِمَالِ عَنْ الصَّوَابِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْعَقْلَ مِنْ صِفَاتِ الرَّاوِي، وَالْمُكَلَّفِ ثُمَّ فَسَرُّوهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَثَرُ الْفَائِضُ مِنْ هَذَا الْجَوْهَرِ عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ، وَيَعُدُّهَا لِلْإِدْرَاكِ، وَحَالُ نُفُوسِنَا بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ حَالُ أَبْصَارنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّمْسِ فَكَمَا أَنَّ بِإِفَاضَةِ نُورِ الشَّمْسِ تُدْرَكُ الْمَحْسُوسَاتُ كَذَلِكَ بِإِفَاضَةِ نُورِهِ تُدْرَكُ الْمَعْقُولَاتُ فَقَوْلُهُ نُورٌ أَيْ قُوَّةٌ شَبِيهَةٌ بِالنُّورِ فِي أَنَّهُ بِهَا يَحْصُلُ الْإِدْرَاكُ. يُضِيءُ أَيْ يَصِيرُ ذَا ضَوْءٍ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ النُّورِ. طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَفْكَارُ، وَتَرْتِيبُ الْمَبَادِئِ الْمُوصِلَةِ إلَى الْمَطَالِبِ، وَمَعْنَى إضَاءَتِهَا صَيْرُورَتُهَا بِحَيْثُ يَهْتَدِي الْقَلْبُ إلَيْهَا، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ تَرْتِيبِهَا وَسُلُوكِهَا تَوْصِيلًا إلَى الْمَطْلُوبِ، وَقَوْلُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ مُتَعَلِّقُ يُبْتَدَأُ، وَالضَّمِيرُ فِي إلَيْهِ عَائِدٌ إلَى حَيْثُ أَيْ مِنْ مَحَلٍّ يَنْتَهِي إلَيْهِ إدْرَاكُ الْحَوَاسِّ فَيَتَبَدَّى أَيْ يَظْهَرُ الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ أَيْ الرُّوحُ الْمُسَمَّى بِالْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ، وَالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ فَيُدْرِكُهُ الْقَلْبُ بِتَأَمُّلِهِ أَيْ الْتِفَاتِهِ إلَيْهِ، وَالتَّوَجُّهِ نَحْوَهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلْهَامِهِ لَا بِتَأْثِيرِ النَّفْسِ أَوْ تَوْلِيدِهَا فَإِنَّ الْأَفْكَارَ مُعِدَّاتٌ لِلنَّفْسِ، وَفَيَضَانُ الْمَطْلُوبِ إنَّمَا هُوَ بِإِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الَّذِي يَحْصُلُ الْإِدْرَاكُ بِإِشْرَاقِهِ، وَإِفَاضَةِ نُورِهِ، وَيَكُونُ نِسْبَتُهُ إلَى النُّفُوسِ نِسْبَةَ الشَّمْسِ إلَى الْأَبْصَارِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ هُوَ الْعَقْلُ الْعَاشِرُ الْمُسَمَّى بِالْعَقْلِ الْفَعَّالِ لَا الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ فَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَسَامُحٌ.

(قَوْلُهُ: وَقَدْ يُطْلَقُ الْعَقْلُ عَلَى قُوَّةٍ لِلنَّفْسِ بِهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>