لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ، قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْخَوْفِ وَهَذَا يُنَافِي مَا قُلْتُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا انْتَفَى الْخَوْفُ كَانَ مُرْجِئًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَمْ نَقُلْ: إذَا انْتَفَى الْخَوْفُ يَكُونُ مُرْجِئًا مُطْلَقًا بَلْ قُلْنَا: إنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ كَانَ مُرْجِئًا وَإِنَّ تَجْرِيدَ الرَّجَاءِ يُوجِبُ الْجُرْأَةَ وَالْإِقْدَامَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَانْتِفَاءُ الْخَوْفِ أَعَمُّ مِنْ تَجْرِيدِ الرَّجَاءِ فَإِنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ انْتِفَاءِ الْخَوْفِ حَالَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْحَيَاءُ بِمَنْعٍ مِنْ الْمَعْصِيَةِ فَذَاكَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَعْبُدُ بِالْحَيَاءِ لَا بِمُجَرَّدِ الرَّجَاءِ. فَإِنْ قُلْت: فَهَذَا الْأَثَرُ مِنْ كَلَامِ عُمَرَ يَقْدَحُ فِيمَا قُلْتُمْ مِنْ فَسَادِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْخَوْفِ.
قُلْت: الْجَوَابُ تَخْصِيصُ الْكَلَامِ بِالْخَوْفِ مِنْ الْعِقَابِ الْأُخْرَوِيِّ لِمَا قُلْنَاهُ: إنَّ الذَّمَّ يُخَافُ وَهُوَ لَازِمٌ لِلْوُجُوبِ اللَّازِمِ لِلْمَعْصِيَةِ بِتَقْدِيرِ التَّرْكِ وَعَدَمِ الْمَعْصِيَةِ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ.
فَإِنْ قُلْت: مَا الْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا؟ . قُلْت: تَمَسُّكُهُمْ بِهَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِمُرَادِهَا وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ مَا يُرْسِلُ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا تَخْوِيفًا لِلنَّاسِ لِيُؤْمِنُوا وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَاهَا فَأَيُّ دَلِيلٍ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ. وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لَزِدْنَا فِي تَقْرِيرِ فَسَادِ الطَّائِفَتَيْنِ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ خَذَلَهُمْ اللَّهُ.
وَقَوْلُ مَكْحُولٍ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْمَحَبَّةِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ فَمَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ خَوْفًا مِنْهُ وَلَا رَجَاءً وَلَا لِصِفَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْمَحَبَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَتَى فُرِضَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ انْتَفَى اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَصَارَ كَمَنْ يَعْمَلُ لِمَنْ يُحِبُّهُ عَمَلًا لِأَجْلِ مَحَبَّتِهِ لَهُ لَا لِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَمَلَ وَمَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَافِرٌ وَإِظْهَارُهُ لِلْإِيمَانِ بِلِسَانِهِ وَبِطَاعَاتِهِ الظَّاهِرَةِ فَقَطْ مِثْلُ إظْهَارِ الزِّنْدِيقِ الْإِسْلَامَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِسْرَارِهِ الْكُفْرَ فَلِهَذَا شَبَّهَهُ بِالزِّنْدِيقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اعْتِقَادَهُ كُفْرٌ وَعَمَلُهُ عَمَلُ الْإِسْلَامِ.
فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ جَاءَ عَنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الطَّرِيقِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ مَا عَبَدْنَاك خَوْفًا مِنْ نَارِك وَلَا طَمَعًا فِي جَنَّتِك وَهَذَا مِنْ ذَاكَ الْقَبِيلِ أَفَتَقُولُونَ: إنَّ هَذَا كُفْرٌ؟ . قُلْت: لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَاكَ الْقَبِيلِ، وَالْقَدْرُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا يَصِيرُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا بِدُونِهِ اعْتِقَادُ اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ الْعِبَادَةَ عَلَى عِبَادِهِ سَوَاءً أَمْ عَذَّبَهُمْ فَهُوَ لِذَاتِهِ تَعَالَى مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ بِأَمْرِهِ تَعَالَى ذَاتِهِ اسْتَحَقَّ أَنَّهُ مَهْمَا أَمَرَ بِهِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ وَحَرُمَتْ مَعْصِيَتُهُ ثُمَّ إنَّهُ بِفَضْلِهِ تَعَالَى وَعَدَ الطَّائِعِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute