مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: ١] » . زَادَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجِنِّ وَمَا رَآهُمْ ثُمَّ اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: انْطَلَقَ، وَلَيْسَتْ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبُخَارِيِّ
وَلَيْسَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَا إنْكَارَ قِرَاءَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجِنِّ أَوْ رُؤْيَتِهِ لَهُمْ مُطْلَقًا بَلْ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ الَّتِي حَكَاهَا فِي آخِرِ كَلَامِهِ، وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَعَارَضَهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ، وَيُقَدَّمُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْيٌ وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ لَا سِيَّمَا وَقِصَّةُ الْجِنِّ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذْ ذَاكَ طِفْلًا أَوْ لَمْ يُولَدْ بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ إنَّمَا يَرْوِيهَا عَنْ غَيْرِهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ يَرْوِيهَا مُبَاشَرَةً عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرَ مُعَارِضٍ لِكَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنْ يَكُونَا مَرَّتَيْنِ.
إحْدَاهُمَا الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ وَفِي سُورَةِ الْجِنِّ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَدَهُمْ وَلَا شَعَرَ بِهِمْ وَلَا رَآهُمْ وَلَا قَرَأَ عَلَيْهِمْ قَصْدًا بَلْ سَمِعُوا قِرَاءَتَهُ وَآمَنُوا بِهِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ. وَثُبُوتُهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ قَطْعِيٌّ.
وَأَهْلُ السِّيَرِ يَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ «لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ وَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الطَّائِفِ وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَذَلِكَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ الْبَعْثَةِ فَأَقَامَ بِالطَّائِفِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ فَلَمَّا نَزَلَ نَخْلَةً قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَصُرِفَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ وَهُوَ يَقْرَأُ» فِي هَذَا السِّيَاقِ مَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فَلَعَلَّ اسْتِمَاعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ حَصَلَ مَرَّتَيْنِ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ لَا غَرَضَ فِيهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ قَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَهُوَ اسْتِمَاعُهُمْ لِقِرَاءَتِهِ وَإِيمَانُهُمْ بِهِ.
وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ رُجُوعُهُمْ إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ وَقَوْلُهُمْ لَهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ فِي تَعَلُّقِ الشَّرِيعَةِ بِهِمْ فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَعَلُّقُ السَّائِلِ بِهِ فِي ضِدِّ ذَلِكَ سَنُجِيبُ عَنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ فِي قِصَّةِ الْجِنِّ إلَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكَفَى لِإِسْمَاعِهِمْ الْقُرْآنَ كَافٍ فِي وُصُولِ الشَّرِيعَةِ إلَيْهِمْ، وَقَدْ قَامَتْ الْأَدِلَّةُ عَلَى عُمُومِهَا مِنْ غَيْرِهِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاصِدٌ التَّبْلِيغَ لِكُلِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute