للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ مُعَارَضَتِهِ أُعْجِبُ مِنْ عَجْزِ الْجِنِّ وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ الْجِنُّ فِي قَوْلِهِ {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الإسراء: ٨٨] تَعْظِيمًا لِإِعْجَازِهِ؛ لِأَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلْأَفْرَادِ فَإِذَا فُرِضَ اجْتِمَاعُ جَمِيعِ الْإِنْسِ وَجَمِيعِ الْجِنِّ فَظَاهَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَعَجَزُوا عَنْ الْمُعَارَضَةِ كَانَ الْفَرِيقُ الْوَاحِدُ وَالطَّائِفَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ وَكُلُّ شَخْصٍ مِنْهَا عَنْ الْمُعَارَضَةِ أَعْجَزَ، فَمَقْصُودُ الْآيَةِ إثْبَاتُ عَجْزِهِمْ بِدَلِيلِ الْأَوْلَى سَوَاءٌ حَصَلَ هَذَا الِاجْتِمَاعُ أَمْ لَمْ يَحْصُلْ.

وَالسَّائِلُ مَعْذُورٌ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ بِذَلِكَ عَلَى عُمُومِ الْبَعْثَةِ لِلْجِنِّ وَنَحْنُ لَمْ نَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ بَلْ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا مُعْتَرَضَ عَلَيْهِ وَلَا مَرَدَّ لَهُ.

(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: وَأَمَّا مَا أُحِلَّ لَهُمْ فَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ تَكْلِيفٌ لَنَا وَمُتَعَلِّقٌ بِنَا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِهِمْ كَمَا نَهَى عَنْ الْبَصْقِ عَنْ الْيَمِينِ مِنْ أَجْلِ الْمَلَكِ وَكَمَا حَرَّمَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ.

أَقُولُ: إنْ ثَبَتَ لَفْظُ الْإِحْلَالِ لَهُمْ لَمْ يَرِدْ هَذَا؛ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ لَهُمْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ وَهُوَ إخْبَارٌ لَهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَالْبَعْثَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ لَفْظُ الْإِحْلَالِ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا اللَّفْظُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُهُ «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِحْلَالِ وَلِغَيْرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَهُوَ مَحَلُّ التَّوَقُّفِ وَإِذَا جُعِلَ التَّوَقُّفُ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ غَيْرِهِ.

وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْبُصَاقِ لِأَجْلِ الْمَلَكِ وَتَحْرِيمُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ فَنَظِيرُهُ تَحْرِيمُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْعَظْمِ مِنْ أَجْلِ الْجِنِّ وَذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِالتَّحْلِيلِ لَهُمْ، فَلْيَفْهَمْ النَّاظِرُ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّحْلِيلِ لَهُمْ وَالتَّحْرِيمِ عَلَيْنَا مِنْ أَجْلِهِمْ، وَالْأَوَّلُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ، وَالثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِنَا لَا بِهِمْ، وَلَيْسَ لَنَا إذَا وَرَدَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَلْفَاظِ الشَّرِيعَةِ مَا أَمْكَنَ وَفَهْمُ مَعَانِيهَا وَتَوْفِيَتُهَا مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا نُهْمِلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا نَتَجَاوَزُهُ فَنَزِيدُ أَحْكَامًا لَمْ يُنْزِلْ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَا نَنْقُصُ مِنْهُ فَنَتْرُكُ حُكْمًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ فِي الْأَوَّلِ حَاكِمًا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَفِي الثَّانِي تَارِكًا لِلْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ لِقَوْلِهِ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: ٤٤]- الْآيَاتِ وَإِذَا تَوَعَّدَ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَعَلَى الْحُكْمِ بِمَا لَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>