للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حِينَئِذٍ؛ أَوْ يُقَالُ إنَّهُ بِالْإِذْنِ بِالشَّفَاعَةِ لَهُ حَصَلَ الْعَفْوُ عَنْهُ، فَصَارَ مُرْتَضًى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيَكْفِي فِي كَوْنِهِ مُرْتَضًى إسْلَامُهُ وَإِنْ كُرِهَ فِسْقُهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي زِيَادَةِ التَّفَضُّلِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ اعْتِزَالٌ مِنْهُ لِإِنْكَارِهِ الشَّفَاعَةَ الَّتِي هِيَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَهُوَ لَا يُسَلِّمُهَا، وَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِأَهْلِ التَّفْضِيلِ، وقَوْله تَعَالَى {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: ١٧٣] لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ إذَا لَمْ يُحِبُّوهُمْ لَمْ يَشْفَعُوا لَهُمْ قَدْ يَمْنَعُ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ قَدْ تَكُونُ لِلرَّحْمَةِ مِنْ غَيْرِ مَحَبَّةٍ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْت الْغَرَضُ حَاصِلٌ بِذِكْرِ الشَّفِيعِ وَنَفْيِهِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَنَفْيِهَا؟ قُلْت فِي ذِكْرِهَا فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهَا ضُمَّتْ إلَيْهِ لِيُقَامَ انْتِفَاءُ الْمَوْصُوفِ مَقَامَ الشَّاهِدِ عَلَى انْتِفَاءِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَتَأَتَّى بِدُونِ مَوْصُوفِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ إزَالَةً لِتَوَهُّمِ وُجُودِ الْمَوْصُوفِ.

بَيَانُهُ أَنَّك إذَا عُوتِبْت عَلَى الْقُعُودِ عَنْ الْغَزْوِ؛ فَقُلْت: مَا لِي فَرَسٌ أَرْكَبُهُ وَلَا مَعِي سِلَاحٌ أُحَارِبُ بِهِ، فَقَدْ جَعَلْت عَدَمَ الْفَرَسِ وَفَقْدَ السِّلَاحِ عِلَّةً مَانِعَةً مِنْ الرُّكُوبِ وَالْمُحَارَبَةِ كَأَنَّك تَقُولُ كَيْفَ يَتَأَتَّى مِنِّي الرُّكُوبُ وَالْمُحَارَبَةُ وَلَا فَرَسَ لِي وَلَا سِلَاحَ مَعِي؟ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: ١٨] مَعْنَاهُ كَيْفَ يَتَأَتَّى الشَّفِيعُ وَلَا شَفِيعَ؟ فَكَانَ ذِكْرُ التَّشْفِيعِ وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَى عَدَمِ تَأَتِّيهِ بِعَدَمِ الشَّفِيعِ وَضْعًا لِانْتِفَاءِ الشَّفِيعِ مَوْضِعَ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَهَّمَ خِلَافُهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ (يُطَاعُ) سِتُّ فَوَائِدَ:

(إحْدَاهَا) أَنَّهَا الَّذِي تَتَشَوَّفُ إلَيْهِ نُفُوسُ مَنْ يَقْصِدُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَكَانَ التَّصْرِيحُ بِنَفْيِهَا فَتًّا فِي أَعْضَادِ الظَّالِمِينَ وَقَطْعًا لِقُلُوبِهِمْ وَحَطْمًا لَهُمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُتَشَوِّقًا إلَى شَيْءٍ فَصُرِّحَ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ كَانَ أَنْكَى لَهُ مِنْ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ شَامِلٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَوْ مُسْتَلْزِمٍ إيَّاهُ فَكَانَتْ لِلتَّخْصِيصِ أَوْ لِلتَّوْضِيحِ أَوْ لِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَصْدِ مَعَ مُسَاوَاتِهَا.

(الثَّانِيَةُ) أَنَّ مِنْ الشُّفَعَاءِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ فَلَا غَرَضَ فِيهِ أَصْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَنَصَّ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِمَنْ قَصَدَ نَفْيَهُ، وَهِيَ صِفَةٌ مُخَصَّصَةٌ، وَقَدَّمَ هَذَا الْغَرَضَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُ الصِّفَةِ مِنْ وُجُودِ غَيْرِهِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِهِ وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ مُغَايِرَةٌ لِلْأُولَى، لِأَنَّ هَذِهِ فِي آحَادِ الشُّفَعَاءِ وَتِلْكَ فِي صِفَةِ شَفَاعَتِهِمْ.

(الثَّالِثَةُ) مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَادَّةُ " يُطَاعُ " وَالْغَالِبُ فِي الشَّفَاعَةِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْقَبُولِ وَالنَّفْعِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، أَمَّا الطَّاعَةُ فَإِنَّمَا تُقَالُ فِي الْأَمْرِ، فَذِكْرُهَا هَاهُنَا لِنُكْتَةٍ بَدِيعَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الظَّالِمِينَ وَشَأْنُ الظَّالِمِينَ فِي الدُّنْيَا الْقُوَّةُ وَالشُّفَعَاءُ الْمُتَكَلَّمُ عَنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَأْمُرُ فَيُطَاعُ نَفَى عَنْهُمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ تَبْكِيتًا وَحَسْرَةً، فَإِنَّ النَّفْسَ إذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>