للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحْمَدُ: إذَا أَهْدَى الْبِطْرِيقُ إلَى صَاحِبِ الْجَيْشِ عَيْنًا أَوْ فِضَّةً لَمْ تَكُنْ لَهُ دُونَ سَائِرِ الْجَيْشِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَكُونُ فِيهِ سَوَاءً.

فَهَذِهِ نُقُولُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ: كَلَامُ الشَّافِعِيَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَخَّصْنَاهُ أَوَّلًا وَكَلَامُ الثَّلَاثَةِ ذَكَرْنَاهُ بَعْدَهُ. وَمِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَى دَفْعِ بَاطِلٍ أَوْ إيصَالٍ إلَى حَقٍّ فَهُوَ رِشْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ يُعْرَفُ أَكْثَرَ مِنْ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ أَثَابَهُ بِمِثْلِهِ كَانَ لَهُ قَبُولُهُ وَإِنْ لَمْ يُثِبْهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ عِنْدِي إلَّا وَضْعُهُ فِي الصَّدَقَاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا وَصَلَ إلَيْهِ بِسَبَبِ الْعِمَالَةِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي عَامِلِ الصَّدَقَةِ.

وَلِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلٌ ثَانٍ قَبُولُهَا غَيْرُ مُحَرَّمٍ فَهِمَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَوْلٌ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهَا وَالِاخْتِصَاصُ بِهَا؛ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ الْإِجْمَاعِ فَلَعَلَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَوَازُ الْقَبُولِ إذَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهَا بَلْ وَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْهَدِيَّةَ لَا يَمْلِكُهَا الْحَاكِمُ بِاتِّفَاقِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَوْ كُلِّهِمْ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ أَخْذِهَا فَحَيْثُ أَوْجَبَتْ رِيبَةً حُرِّمَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا؛ وَالتَّحْرِيمُ فِي الْقَاضِي آكَدُ مِنْ بَقِيَّةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ لِأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ الصِّيَانَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الشَّرْعِ.

فَلْيَنْظُرْ الْقَاضِي الْمِسْكِينُ الْمُشْفِقُ عَلَى دِينِهِ إلَى سِيرَتِهِ وَإِلَى سِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ فِي أَحْكَامِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فَإِنْ وَجَدَ سِيرَتَهُ قَرِيبَةً مِنْ ذَلِكَ فَأَحْرَى أَنْ يَنْجُوَ أَوْ لِيَسْأَلَ اللَّهَ فِي تَقْصِيرِهِ وَإِنْ وَجَدَ سِيرَتَهُ مُخَالِفَةً لِسِيرَتِهِمْ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ يَعْدِلُ عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ وَلْيَقْنَعْ بِأَنْ يَكُونَ فِي عِدَادِ الْمُسْلِمِينَ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَلَا نَتَعَرَّضُ إلَى هَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ وَنَتَحَمَّلُ أَعْبَاءَ هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ، وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ مِنْ السَّلَفِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ خَطَرِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِيهِ بِحَقٍّ وَعَدْلٍ فِيهِ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ دَرَجَةُ الْمُجَاهِدِينَ بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَكُلُّ قَضِيَّةٍ يَحْكُمُ فِيهَا بِالْحَقِّ فَيَدْفَعُ ظَالِمًا وَيَصِلُ حَقًّا هِيَ جِهَادٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ الْعَدْلُ مِنْ صَاحِبِهَا إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَالْأَوْلَى لِلْمُحْتَاطِ لِدِينِهِ الِانْكِفَافُ عَنْهَا وَلْيَعْلَمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ جِهَةَ مَكْسَبٍ بَلْ جِهَةُ عِبَادَةٍ وَفِيهَا خَطَرٌ إنْ زَلَّ هَوَى فِي جَهَنَّمَ فَالسَّلَامَةُ فِي تَرْكِهَا وَنَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ.

وَأَحْسَنُ أَحْوَالِ الْفَقِيهِ عِنْدِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَا مَنْصِبًا وَيَجْعَلُ كَسْبَهُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ جِهَاتِ الْحِلِّ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَرْزُقَهُ الْإِمَامُ أَوْ يَفْعَلَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ أُجْرَةً مِثْلَ أَنْ يَكْتُبَ مَكْتُوبًا فَيَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ مِثْلِهِ فِيهِ إذَا لَمْ تَكُنْ كِتَابَةُ ذَلِكَ وَاجِبَةً

<<  <  ج: ص:  >  >>