يَقْطَعُهُ عَنْ كَسْبِهِ وَأَنْ يَعْلَمَ بِهِ الْخَصْمَانِ قَبْلَ التَّحَاكُمِ وَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا مَعًا وَأَنْ لَا يُوجَدَ مُتَطَوِّعٌ وَيَعْجَزُ الْإِمَامُ عَنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ وَيَكُونُ مَا يَأْخُذُ غَيْرَ مُضِرٍّ بِالْخُصُومِ وَلَا زَائِدٍ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ وَيَكُونُ مَشْهُورًا بَيْنَ النَّاسِ يَتَسَاوَى فِيهِ الْخُصُومُ مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلٍ فَإِنْ فُقِدَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَمْ يَجُزْ، ثُمَّ الْجَوَازُ إذَا اجْتَمَعَتْ قَوْلٌ شَاذٌّ لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي فَرَضَهُ إنَّمَا قَالَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالْمَخْمَصَةِ وَفِيهِ مَعَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا التَّوَدُّدُ وَاسْتِمَالَةُ الْقُلُوبِ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَمْ تُقَدَّمْ لَهُ عَادَةً قَبْلَ الْوِلَايَةِ فَحَرَامٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَهُ عَادَةً قَبْلَ الْوِلَايَةِ فَإِنْ زَادَ فَكَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَادَةً وَإِنْ لَمْ يَزِدْ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ خُصُومَةٌ جَازَ بِقَدْرِ مَا كَانَتْ عَادَتُهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَقْبَلَ؛ وَالتَّشْدِيدُ عَلَى الْقَاضِي فِي قَبُولِ الْهَدِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الشَّرْعِ فَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يَسِيرَ بِسِيرَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ الْمَالِكِيُّ: لَا يَقْبَلُ الْقَاضِي هَدِيَّةً مِنْ أَحَدٍ لَا مِنْ قَرِيبٍ وَلَا مِنْ صَدِيقٍ وَإِنْ كَافَأَهُ بِأَضْعَافِهَا إلَّا مِنْ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَخَاصَّةِ الْقَرَابَةِ الَّتِي تَجْمَعُ مِنْ حُرْمَةِ الْحَاجَةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ حُرْمَةِ الْهَدِيَّةِ.
قَالَ سَحْنُونٌ: مِثْلُ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْأَخِ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الْهَدِيَّةِ إلَى السُّلْطَانِ الْأَكْبَرِ وَإِلَى الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَجُبَاةِ الْأَمْوَالِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ» وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ.
وَحَكَى ابْنُ أَبِي زَيْدٍ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ أَيْضًا قَالَ: وَقَدْ رَدَّ عَلِيٌّ خَرُوفًا أُهْدِيَ إلَيْهِ وَقَالَ رَبِيعَةُ: الْهَدِيَّةُ ذَرِيعَةُ الرِّشْوَةِ وَعُلْمَةُ الظَّلَمَةِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ كَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُهْدَى إلَيْهِ قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا أُهْدِيَ إلَى الْوَالِي لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إلَّا السُّلْطَانُ، وَفِي كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ مَلِكَ الْعَدُوِّ إذَا بَعَثَ إلَى أَمِيرِ الْجُنْدِ هَدِيَّةً فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْبَلَهَا وَيَصِيرَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ مَا أُهْدِيَ إلَيْهِ لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَنَعَتِهِ وَمَنَعَتُهُ بِالْمُسْلِمِينَ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْمُصَابِ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْهَدِيَّةِ فَإِنَّ قُوَّتَهُ وَمَنَعَتَهُ لَمْ تَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: ٦٧] فَلِهَذَا كَانَتْ الْهَدِيَّةُ لَهُ خَاصَّةً وَسُنَّةً أَيْضًا بِخِلَافِ الْهَدِيَّةِ إلَى الْحُكَّامِ فَإِنَّ ذَلِكَ رِشْوَةٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حَمَلَ الْمُهْدِي عَلَى التَّقَرُّبِ إلَيْهِ وِلَايَتُهُ الثَّابِتَةُ بِتَقْلِيدِ الْإِمَامِ إيَّاهُ وَالْإِمَامُ فِي ذَلِكَ نَائِبٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ» يَعْنِي إذَا حَبَسُوا ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَقْبَلُ الْقَاضِي هَدِيَّةَ مَنْ لَمْ يَكُنْ يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ.
وَقَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute