فِي الْمُحَرَّرِ وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا هُنَا الْمَسَافَةَ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ مِنْ مَكَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ لِلْبَيْتِ مُنَاسِبٌ اعْتِبَارَ مَكَّةَ، وَهُنَا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ نَاصَّةٌ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَمَا هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ وَكَانَ ابْتِدَاءُ الْمَسَافَةِ مِنْهُ وَإِنَّمَا أَلْحَقْنَا مَنْ فِي الْمَسَافَةِ بِمَنْ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّ مَنْ قَرُبَ مِنْ الشَّيْءِ كَانَ حَاضِرًا إيَّاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: ١٦٣] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هِيَ أَيْلَةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْبَحْرِ وَإِنَّمَا هِيَ مُقَارِنَةٌ لَهُ.
وَقَدْ يَرُدُّ عَلَى هَذَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ فَقَدْ رَبِحَ أَحَدَ السَّفَرَيْنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْحَاضِرِينَ. وَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ هَذَا بِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ بَعْضِ الْقُرَى الْقَرِيبَةِ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يُتْرِفْهُ تَرَفُهَا لَهُ تَأْثِيرٌ بِإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ لَا بِرُجُوعِهِ إلَى قَرِينَةٍ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِيهِ وَالْغَرِيبُ فِي رُجُوعِهِ إلَى الْمِيقَاتِ مَشَقَّةٌ وَتَرَفُهُ لَهُ تَأْثِيرٌ، الثَّانِي أَنَّ مَنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ خَارِجًا عَنْ الْحَرَمِ وَأَرَادَ النُّسُكَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ مَوْضِعَهُ إلَّا مُحْرِمًا وَلَوْ أُعْطِيَ حُكْمَ الْمُقِيمِ لَجَازَ لَهُ الْمُجَاوَرَةُ وَالْإِحْرَامُ مِنْ مَكَّةَ.
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَالْمُحْرِمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْلُ الْحَرَمِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ ذِي طُوًى قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَرَمِ غَيْرُ مَكَّةَ قَرْيَةٌ عَامِرَةٌ غَيْرُ ذِي طُوًى؛ وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ فَقَالَ: إنَّ الْغَزَالِيَّ حَكَى وَجْهًا أَنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَهْلُ الْحَرَمِ خَاصَّةً وَهَذَا الْوَجْهُ لَمْ أَرَهُ فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَلَا فِي كَلَامِ غَيْرِهِ فَلْنَعْرِضْ عَنْهُ وَنَتَكَلَّمْ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ اعْتِبَارُ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ دُونَهَا فَمَنْ كَانَ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ فَوْقَهَا؛ هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِمْلَاءِ، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ مُوهِمَةٌ خِلَافَ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ) وَعَلَيْهَا مَدَارُ الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحُضُورَ هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الِاسْتِيطَانُ أَوْ الْإِقَامَةُ أَوْ مُجَرَّدُ الْكَوْنِ هُنَاكَ؟ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي اسْمِ الْحَاضِرِ الِاسْتِيطَانُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَكَنَ غَيْرَهَا ثُمَّ تَمَتَّعَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالسَّكَنُ النَّقْلَةُ بِالْبَدَنِ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى إيطَانِ الْبِلَادِ وَالِانْقِطَاعِ إلَيْهَا لَا حَدَّ لِذَلِكَ إلَّا ذَلِكَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. هَذِهِ عِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ: الْعِبْرَةُ فِيهِ بِالِاسْتِيطَانِ وَالسُّكْنَى دُونَ الْمَنْشَأِ وَالْمَوْلِدِ.
وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: لَوْ طَالَ مَقَامُ مَكِّيٍّ فِي بَلَدٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute