للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُشْكِلٌ وَتَرْجِيحُ الْمَنْعِ فِيهَا أَشْكَلُ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَقَدْ فُعِلَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَقَدْ تَوَلَّى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِمَارَةَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوَلِيدِ وَذَهَّبَ سَقْفَهُ؛ وَإِنْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ امْتِثَالُ أَمْرِ الْوَلِيدِ.

فَأَقُولُ: إنَّ الْوَلِيدَ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الْمُلُوكِ إنَّمَا تَصْعُبُ مُخَالَفَتُهُمْ فِيمَا لَهُمْ فِيهِ غَرَضٌ يَتَعَلَّقُ بِمِلْكِهِمْ وَنَحْوِهِ أَمَّا مِثْلُ هَذَا وَفِيهِ تَوْفِيرٌ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فَلَا تَصْعُبُ مُرَاجَعَتُهُمْ فِيهِ فَسُكُوتُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَمْثَالِهِ وَأَكْبَرَ مِنْهُ مِثْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَبَقِيَّةِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا دَلِيلٌ لِجَوَازِ ذَلِكَ، بَلْ أَقُولُ قَدْ وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخِلَافَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَرَادَ أَنْ يُزِيلَ مَا فِي جَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ الذَّهَبِ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ يَقُومُ بِأُجْرَةِ حَلِّهِ فَتَرَكَهُ، وَالصَّفَائِحُ الَّتِي عَلَى الْكَعْبَةِ يَتَحَصَّلُ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ فَلَوْ كَانَ فِعْلُهَا حَرَامًا لَأَزَالَهَا فِي خِلَافَتِهِ لِأَنَّهُ إمَامُ هُدًى فَلَمَّا سَكَتَ عَنْهَا وَتَرَكَهَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِجَوَازِهَا وَمَعَهُ جَمِيعُ النَّاسِ الَّذِينَ يَحُجُّونَ كُلَّ عَامٍ وَيَرَوْنَهَا فَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ فِيهَا عَجِيبٌ جِدًّا، عَلَى أَنَّهُ قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لِذِكْرِ هَذَا الْحُكْمِ فِيهَا أَعْنِي الْكَعْبَةَ بِخُصُوصِهَا، وَرَأَيْتُهَا أَيْضًا فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الذَّخِيرَةِ الْقَرَافِيَّةِ وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ تَصْرِيحٌ بِالتَّحْرِيمِ.

وَهَذَا الَّذِي قُلْتُهُ كُلَّهُ فِي تَحْلِيَةِ الْكَعْبَةِ بِخُصُوصِهَا بِصَفَائِحِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِهَا فَلْيُضْبَطْ ذَلِكَ وَلَا يَتَعَدَّى، وَلَا أَمْنَعُ مِنْ جَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي التَّمْوِيهِ وَالزَّخْرَفَةِ فِيهَا لِأَنَّ التَّمْوِيهَ يُزِيلُ مَالِيَّةَ النَّقْدَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا قِيَمُ الْأَشْيَاءِ، وَتَضْيِيقُ النَّقْدَيْنِ مَحْظُورٌ لِتَضْيِيقِهِ الْمَعَاشَ وَإِغْلَائِهِ الْأَسْعَارَ وَإِفْسَادِهِ الْمَالِيَّةَ، وَلَا أَمْنَعُ مِنْ جَرَيَانِ الْخِلَافِ فِيهِ أَيْضًا فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فِي الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا التَّمْوِيهَ وَالتَّحْلِيَةَ؛ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ حُسَيْنًا جَزَمَ بِحِلِّ تَحْلِيَةِ الْمَسْجِدِ بِالْقَنَادِيلِ مِنْ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِمَا وَأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ وَهَذَا أَرْجَحُ مِمَّا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى تَحْرِيمِهَا دَلِيلٌ وَالْحَرَامُ مِنْ الذَّهَبِ إنَّمَا هُوَ اسْتِعْمَالُ الذُّكُورِ لَهُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ أَوَانِيهِ وَلَيْسَ فِي تَحْلِيَةِ الْمَسْجِدِ بِالْقَنَادِيلِ الذَّهَبِيَّةِ وَنَحْوِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى: الَّذِي يَتَبَيَّنُ لِي أَنَّ مَنْ كَتَبَ الْقُرْآنَ بِالذَّهَبِ فَقَدْ أَحْسَنَ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِي الذَّهَبِ إلَّا تَحْرِيمُهُ عَلَى ذُكُورِ الْأُمَّةِ فِيمَا يُنْسَبُ إلَى الذُّكُورِ وَهَذَا لَا يُنْسَبُ إلَى الذُّكُورِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحِلِّ مَا لَمْ يَنْتَهِ إلَى الْإِسْرَافِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ احْتِرَامٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنْسَبُ إلَى الذُّكُورِ حَتَّى يُحْكَمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَلَسْت أَقُولُ هَذَا عَنْ رَأْيٍ مُجَرَّدٍ لَكِنِّي رَأَيْت فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مَا دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ. هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ فِي الْكِتَابَةِ بِالذَّهَبِ، وَفِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَضْيِيقِ النَّقْدَيْنِ لِزَوَالِ مَالِيَّةِ الذَّهَبِ بِالْكُلِّيَّةِ بِخِلَافِ التَّحْلِيَةِ بِذَهَبٍ بَاقٍ. فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ تَحْلِيَةَ الْكَعْبَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>