اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِيهَا ذَلِكَ وَلَا مَعْنَى لِإِبْقَائِهَا بَعْدَ نَزْعِهَا وَهِيَ غَيْرُ مَوْقُوفَةٍ، أَمَّا الذَّهَبُ الصَّفَائِحُ وَالْقَنَادِيلُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يُقْصَدُ بَقَاؤُهُ وَلَا يَتْلَفُ فَلَا يَأْتِي ذَلِكَ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ بَلْ يَبْقَى، وَقَدْ قَالُوا فِي الطِّيبِ
إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ لَا لِلتَّبَرُّكِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ خِلَافًا فَإِذَا كَانَ فِي الطِّيبِ فَمَا ظَنُّك بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَالُوا: وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ الطِّيبِ لِلتَّبَرُّكِ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِطِيبٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيَمْسَحَهَا بِهِ ثُمَّ يَأْخُذَهُ، وَاَلَّذِي اسْتَحْسَنَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْكُسْوَةِ لَا بَأْسَ بِهِ وَكَذَا مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَلَا بَأْسَ بِتَفْوِيضِ ذَلِكَ إلَى بَنِي شَيْبَةَ فَإِنَّهُمْ حَجَبَتُهَا وَلَهُمْ اخْتِصَاصٌ بِهَا فَإِنْ أَخَذُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ أَوْ لِغَيْرِهِمْ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا لِاقْتِضَاءِ الْعُرْفِ ذَلِكَ وَكَوْنِهِمْ مِنْ مَصَالِحِ الْكَعْبَةِ.
وَأَمَّا لَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَخْذَهَا وَجَعْلَهَا مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُ ابْنِ الصَّلَاحِ فَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ أَصْلًا وَلَكِنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّفْرِقَةِ عَلَى مَنْ يَخْتَصُّ بِالتَّفْرِقَةِ وَبَنُو شَيْبَةَ قَائِمُونَ مَقَامَهُ. هَذَا كُلُّهُ فِي الْكَعْبَةِ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَمَّا غَيْرُهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ فَلَا يَنْتَهِي إلَيْهَا فَلَا يَبْعُدُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ وَالْأَرْجَحُ مِنْهُ الْجَوَازُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَلَا أَقُولُ بِهِ إنَّهُ يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْقُرْبَةِ وَلِهَذَا اسْتِمْرَارُ النَّاسِ عَلَى خِلَافِهِ فِي الْأَكْثَرِ.
وَأَمَّا تَعْلِيلُ الرَّافِعِيِّ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ فِعْلِ السَّلَفِ فَعَجِيبٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ لَا تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَقُصَارَاهَا أَنْ تَقْتَضِيَ أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ أَوْ مَكْرُوهٍ كَرَاهِيَةَ تَنْزِيهٍ أَمَّا التَّحْرِيمُ فَلَا، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَجْزِمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى يَرِدَ نَهْيٌ مِنْ الشَّارِعِ وَإِنَّمَا وَرَدَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ «هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا» وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ غَيْرُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا اقْتَضَى لَفْظُهُ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» وَقَاسَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ غَيْرَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَيْهِمَا وَتَكَلَّمُوا فِي الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِقِيَاسِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَيْهِمَا الْمُقْتَضِيَةِ لِقِيَاسِ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَيْهِمَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ التَّشَبُّهُ بِالْأَعَاجِمِ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ تَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ لَا التَّحْرِيمَ وَاسْتَنَدَ مَنْ عَلَّلَ بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ إلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» .
وَتَأَمَّلْت فَوَجَدْت هَذِهِ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ لِمَشْرُوعِيَّةِ التَّحْرِيمِ بَلْ هِيَ تَسْلِيَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ عَنْ مَنْعِهِمْ عَنْهَا وَعِلَّةٌ لِانْتِهَائِهِمْ بِمُجَازَاتِهِمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ لِبَسْطِ نُفُوسِهِمْ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ " لَا تَأْخُذْ هَذَا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَإِنِّي أَدَّخِرُهُ لَك
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute