للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي وَقْتٍ أَنْفَعَ لَك مِنْ الْآنَ " فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ وَلَوْ كَانَتْ عِلَّةً مَنْصُوصَةً لَمْ يَجُزْ تَعَدِّيهَا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْعِلَّةُ السَّرَفُ أَوْ الْخُيَلَاءُ أَوْ كَسْرُ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ أَوْ تَضْيِيقُ النَّقْدَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَيْهِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْعِلَلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَسْتَعْمِلُهُ الشَّخْصُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، أَمَّا تَحْلِيَةُ الْمَسَاجِدِ تَعْظِيمًا لَهَا فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعِلَلِ وَهَكَذَا الْقَنَادِيلُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّ الشَّخْصَ إذَا اتَّخَذَهَا لِلْمَسْجِدِ لَمْ يَقْصِدْ اسْتِعْمَالَهَا وَلَا أَنْ يَتَزَيَّنَ بِهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ جِهَتِهِ وَاَلَّذِي حَرُمَ اتِّخَاذُهَا عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ إنَّمَا حَرُمَ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْسَ تَدْعُو إلَى الِاسْتِعْمَالِ الْمُحَرَّمِ وَذَلِكَ إذَا كَانَتْ لَهُ.

وَأَمَّا إذَا جَعَلَهَا لِلنَّفْسِ فَلَا تَدْعُو النَّفْسُ إلَى اسْتِعْمَالٍ حَرَامٍ أَصْلًا كَيْفَ تَحْرُمُ وَهِيَ لَا تُسَمَّى أَوَانِي؛ وَرَأَيْت الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِتَحْرِيمِهَا لِلْمَسْجِدِ وَجَعَلُوهَا مِنْ الْأَوَانِي أَوْ مَقِيسَةً عَلَيْهَا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لَا هِيَ أَوَانِي وَلَا فِي مَعْنَى الْأَوَانِي، وَقَدْ رَأَيْت فِي الْقَنَادِيلِ شَيْئًا آخَرَ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ «تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ» وَلَعَلَّ مِنْ هُنَا جُعِلَتْ الْقَنَادِيلُ فِي الْمَسَاجِدِ وَإِلَّا فَكَانَ يَكْفِي مِسْرَجَةٌ أَوْ مَسَارِجُ تَنُّورٍ كَأَنَّهَا مَحَلُّ النُّورِ فَلَمَّا كَانَ النُّورُ مَطْلُوبًا فِي الْمَسَاجِدِ لِلْمُصَلِّينَ جُعِلَتْ فِيهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ اشْتِرَاكًا وَافْتِرَاقًا أَمَّا الِاشْتِرَاكُ فَلِإِطْلَاقِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْكَعْبَةِ وَلِأَنَّهَا بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الِافْتِرَاقُ فَالْمَسَاجِدُ بُنِيَتْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا وَالْكَعْبَةُ بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ إلَيْهَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّلَاةِ فِيهَا؛ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الَّذِي تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَيْهِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ الْكَعْبَةُ.

وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ الَّذِي حَوْلَهَا الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الصَّلَاةِ وَفِيهِ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: ١٢٥] فَالْحَرَمُ كُلُّهُ شَرِيفٌ وَمَكَّةُ أَشْرَفُهُ وَالْحَرَمُ الْمُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ الَّذِي هُوَ مَسْجِدٌ أَشْرَفُهَا وَالْكَعْبَةُ أَشْرَفُهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ مَحَلَّ الصَّلَاةِ فَهِيَ مِنْ جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ أَزْيَدُ وَهُوَ مِنْ جِهَةِ إقَامَةِ الصَّلَاةِ أَزْيَدُ، وَتِلْكَ الْجِهَةُ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ فِي الْحِلْيَةِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَحَقَّ مِنْ الْمَسْجِدِ فَضَعُفَ الْخِلَافُ فِيهَا وَقَوِيَ فِيهِ أَعْنِي فِي التَّحْلِيَةِ الَّتِي اسْتَمَرَّتْ الْأَعْصَارُ عَلَيْهَا.

وَأَمَّا الْقَنَادِيلُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّنْوِيرُ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَهُمْ لَيْسُوا دَاخِلَ الْكَعْبَةِ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَانَ الْمَسْجِدُ بِالْقَنَادِيلِ أَحَقَّ لَكِنْ فِي الْكَعْبَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الرُّجْحَانِ فِي التَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ فَاعْتَدَلَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَنَادِيلِ فَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَنَادِيلِ لَا بَأْسَ بِهَا.

وَالْأَصَحُّ مِنْهُ مَا اخْتَرْنَاهُ الْجَوَازَ وَعَلَى مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ التَّحْرِيمُ وَلَا دَلِيلَ لَهُ لِأَنَّهَا لَا أَوَانِي وَلَا مُشْبِهَةٌ لِلْأَوَانِي

<<  <  ج: ص:  >  >>