فَلَا يَشْمَلُهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ بَلْ هُوَ أَشْرَفُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَأَشْرَفُ مِنْ مَسْجِدِ مَكَّةَ وَأَشْرَفُ مِنْ كُلِّ الْبِقَاعِ كَمَا حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي ضَمَّ أَعْضَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ أَفْضَلَ وَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَنَظَمَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ:
جَزَمَ الْجَمِيعُ بِأَنَّ خَيْرَ الْأَرْضِ مَا ... قَدْ أَحَاطَ ذَاتَ الْمُصْطَفَى وَحَوَاهَا
وَنَعَمْ لَقَدْ صَدَقُوا بِسَاكِنِهَا عَلَتْ ... كَالنَّفْسِ حِينَ زَكَتْ زَكَا مَأْوَاهَا
وَرَأَيْت جَمَاعَةً يَسْتَشْكِلُونَ نَقْلَ هَذَا الْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ لِي قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ السُّرُوجِيُّ الْحَنَفِيُّ: طَالَعْت فِي مَذْهَبِنَا خَمْسِينَ تَصْنِيفًا فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا تَعَرُّضًا لِذَلِكَ وَقَالَ لِي ذَكَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَنَا وَلَكُمْ أَدِلَّةً فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَذَكَرْت أَنَا أَدِلَّةً أُخْرَى، وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي قَالَ: إنَّ الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ ذَكَرَهَا وَقَفْت عَلَيْهَا وَوَقَفْت عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَمَاكِنِ عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ: إنَّ الْأَمَاكِنَ وَالْأَزْمَانَ كُلَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ وَيُفَضَّلَانِ بِمَا يَقَعُ فِيهِمَا لَا بِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهِمَا وَيَرْجِعُ تَفْضِيلُهُمَا إلَى مَا يُنِيلُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيهِمَا مِنْ فَضْلِهِ وَمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَأَنَّ التَّفْضِيلَ الَّذِي فِيهِمَا أَنَّ اللَّهَ يَجُودُ عَلَى عِبَادِهِ بِتَفْضِيلِ أَجْرِ الْعَامِلِينَ فِيهِمَا فَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَأَنَا أَقُولُ: قَدْ يَكُونُ لِذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ لِأَمْرٍ آخَرَ فِيهِمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ فَإِنَّ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَالْمَلَائِكَةِ وَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْمَحَبَّةِ لَهُ وَلِسَاكِنِهِ مَا تَقْصُرُ الْعُقُولُ عَنْ إدْرَاكِهِ وَلَيْسَ لِمَكَانِ غَيْرِهِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَفْضَلَ الْأَمْكِنَةِ، وَلَيْسَ مَحَلَّ عَمَلٍ لَنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَسْجِدًا وَلَا لَهُ حُكْمُ الْمَسَاجِدِ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذَا مَعْنًى غَيْرُ تَضْعِيفِ الْأَعْمَالِ فِيهِ وَقَدْ تَكُونُ الْأَعْمَالُ مُضَاعَفَةً فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ وَأَعْمَالَهُ فِيهِ مُضَاعَفَةٌ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ فَلَا يَخْتَصُّ التَّضْعِيفُ بِأَعْمَالِنَا نَحْنُ فَافْهَمْ هَذَا يَنْشَرِحْ صَدْرُك لِمَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ تَفْضِيلِ مَا ضَمَّ أَعْضَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قِيلَ إنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُدْفَنُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ، وَالثَّانِي تَنَزُّلُ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَاتِ عَلَيْهِ وَإِقْبَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْفَضْلَ لَيْسَ لِلْمَكَانِ لِذَاتِهِ لَكِنْ لِأَجْلِ مَنْ حَلَّ فِيهِ إذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَهَذَا الْمَكَانُ لَهُ شَرَفٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ وَعَلَى الْكَعْبَةِ وَلَا يَلْزَمُ مَنْ مَنَعَ تَعْلِيقَ قَنَادِيلِ الذَّهَبِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْكَعْبَةِ الْمَنْعُ مِنْ تَعْلِيقِهَا هُنَا، وَلَمْ نَرَ أَحَدًا قَالَ بِالْمَنْعِ هُنَا، وَكَمَا أَنَّ الْعَرْشَ أَفْضَلُ الْأَمَاكِنِ الْعُلْوِيَّةِ وَحَوْلَهُ قَنَادِيلُ.
كَذَلِكَ هَذَا الْمَكَانُ أَفْضَلُ الْأَمَاكِنِ الْأَرْضِيَّةِ فَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَنَادِيلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute