الْفُقَرَاءُ فِي كُلِّ سَنَةٍ رُبُعَ الْعُشْرِ فَيَكُونُ قَدْ اسْتَغْرَقَتْ الزَّكَاةُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَيَجِبُ صَرْفُهَا إلَيْهِمْ وَلَا تُبَاعُ. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا مَسَاغَ لِلْبَيْعِ، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ إنْكَارِي إيَّاهَا.
وَأَمَّا الِاسْتِقْبَاحُ فَلِمَا يَبْلُغُ الْمُلُوكَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ أَنَّا بِعْنَا قَنَادِيلَ نَبِيِّنَا لِعِمَارَةِ حَرَمِهِ وَنَحْنُ نَفْدِيهِ بِأَنْفُسِنَا فَضْلًا عَنْ أَمْوَالِنَا. وَمَا بَرِحَتْ الْمُلُوكُ يَعْمُرُونَ هَذَا الْحَرَمَ الشَّرِيفَ وَيَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عِمَارَةَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَهُ ثُمَّ الْمَهْدِيِّ ثُمَّ الْمُتَوَكِّلِ، وَأَزَّرَ الْحُجْرَةَ بِالرُّخَامِ ثُمَّ جَدَّدَ التَّأْزِيرَ وَزِيرُ ابْنِ زَنْكِيٍّ فِي خِلَافَةِ الْمُقْتَفِي وَعَمِلَ لَهَا شُبَّاكًا مِنْ خَشَبِ الصَّنْدَلِ وَالْأَبَنُوسِ وَكَانَتْ السَّتَائِرُ الْحَرِيرُ تَأْتِي إلَيْهِ مِنْ الْخُلَفَاءِ، وَفِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلَّ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَقَعَتْ نَارٌ فِي الْمَدِينَةِ فَاحْتَرَقَ الْمِنْبَرُ وَبَعْضُ الْمَسْجِدِ وَبَعْضُ سَقْفِ الْحُجْرَةِ فَكَتَبُوا إلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَعْصِمِ فَأَرْسَلَ بِصُنَّاعٍ وَآلَاتٍ مِنْ بَغْدَادَ وَابْتَدَأَ بِعِمَارَتِهِ أَوَّلَ سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَلَمْ يَجْسُرُوا عَلَى إزَالَةِ مَا وَقَعَ مِنْ السُّقُوفِ عَلَى الْقُبُورِ حَتَّى يُطَالِعُوا الْمُسْتَعْصِمَ.
وَاشْتَغَلَ الْمُسْتَعْصِمُ بِالتَّتَارِ فَسَقَفُوا الْحُجْرَةَ؛ وَوَصَلَ مِنْ مِصْرَ آلَاتُ الْعِمَارَةِ فِي دَوْلَةِ الْمَنْصُورِ عَلِيِّ بْنِ الْمُعِزِّ أَيْبَكَ، وَوَصَلَ مِنْ الْيَمَنِ مِنْ مَلِكِهَا شَمْسِ الدِّينِ الْمُظَفَّرِ يُوسُفَ بْنِ الْمَنْصُورِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَسُولٍ آلَاتٌ وَأَخْشَابٌ، وَتَسَلْطَنَ بِمِصْرَ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ وَاسْمُهُ الْحَقِيقِيُّ مَحْمُودُ بْنُ مَمْدُودٍ ابْنُ أُخْتِ جَلَالِ الدِّينِ خُوَارِزْمَ شَاهْ وَأَبُوهُ ابْنُ عَمِّهِ وَقَعَ عَلَيْهِ السَّبْيُ فَبِيعَ بِدِمَشْقَ وَسُمِّيَ قُطُزَ، وَاشْتَغَلَ بِالتَّتَارِ حَتَّى كَسَرَهُمْ فِي عَيْنِ جَالُوتَ وَمَاتَ فِي دُونِ السَّنَةِ، وَتَسَلْطَنَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، وَكَانَ صَاحِبُ الْيَمَنِ أَرْسَلَ مِنْبَرًا مِنْ صَنْدَلٍ فَقَلَعَهُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ وَأَرْسَلَ مِنْبَرًا مِنْ جِهَتِهِ وَكَمَّلَ عِمَارَتَهُ.
وَالْمُلُوكُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ افْتِخَارًا بِهِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ:
نَفْسُ النَّبِيِّ لَدَيَّ أَعْلَى الْأَنْفُسِ ... فَاتَّبِعْهُ فِي كُلِّ النَّوَائِبِ وَائْتَسِ
وَاتْرُكْ حُظُوظَ النَّفْسِ عَنْك وَقُلْ لَهَا ... لَا تَرْغَبِي عَنْ نَفْسِ هَذَا الْأَنْفُسِ
فَرُدِّي الرَّدَى وَاحْمِيهِ كُلَّ مُلِمَّةٍ ... فَلَقَدْ سَعِدْت إذَا خُصِّصَتْ بِأَبْؤُسِ
إنْ تُقْتَلِي يُصْعَدُ بِرُوحِك فِي الْعُلَى ... بِيَدِ الْكِرَامِ عَلَى ثِيَابِ السُّنْدُسِ
وَتَرَيْنَ مَا تَرْضَيْنَ مِنْ كُلِّ الْمُنَى ... فِي مَقْعَدٍ عِنْدَ الْمَلِيكِ مُقَدَّسِ
أَوْ تَرْجِعِي بِغَنِيمَةٍ تَحْظِي بِهَا ... وَبِذُخْرِ أَجْرٍ تَرْتَجِيهِ وَتَرْأَسِي
مَا أَنْتِ حَتَّى لَا تَكُونِي فِدْيَةً ... لِمُحَمَّدٍ فِي كُلِّ هَوْلٍ مُلْبِسِ
مَا فِي حَيَاتِك بَعْدَهُ خَيْرٌ وَلَا ... إنْ مَاتَ تَخْلُفُهُ جَمِيعُ الْأَنْفُسِ
فَمُحَمَّدٌ بِحَيَاتِهِ يُهْدَى الْأَنَا ... مُ وَتَنْمَحِي سُدَفُ الظَّلَامِ الْحِنْدِسِ
وَيَقُومُ دِينُ اللَّهِ أَبْيَضَ طَاهِرًا ... فِي غَيْظِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ الْأَنْحَسِ