فَلَا مَطْمَعَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ الْإِلْبَاسُ مِنْ خَلْطِ صُوَرِ الْمَسَائِلِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَعِنْدَ تَمْيِيزِهَا، وَتَفْصِيلِ صُوَرِهَا، وَتَحْرِيرِهَا يَظْهَرُ تَقْرِيرُهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ أَعْلَى، وَأَسْمَى مِنْ أَنْ نَقُولَهُ لِغَالِبِ أَبْنَاءِ الزَّمَانِ الْمُشَمِّرِينَ عَنْ سَاقِ الْجِدِّ فِي الِاشْتِغَالِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يُعْطِي الْعِلْمَ حَقَّهُ مِنْ الْكَلَامِ، وَلَعَلَّ حُرًّا يَنْدُرُ وُجُودُهُ يَقَعُ مِنْهُ بِمَوْقِعٍ فَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَتَنَبَّهُ بِهِ عَلَى أَمْثَالِهِ مِنْ فَتْحِ مُرْبِحِ الْعُلُومِ، وَاسْتِدْرَارِ إنْتَاجِ الْفُهُومِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ نَرَاهُ يَتَكَلَّمُ فِي الْعِلْمِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ، وَإِنْ اتَّسَمَ بِسَمْتِهِ، وَتَحَلَّى ظَاهِرُهُ بِصِفَتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
وَكُلٌّ يَدَّعُونَ وِصَالَ لَيْلَى ... وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَ
، فَإِنْ قُلْت قَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ فِي مَسْأَلَةِ السَّفِينَةِ: إذَا قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ، وَأَنَا، وَرُكْبَانُ السَّفِينَةِ ضَامِنُونَ كُلٌّ مِنَّا عَلَى الْكَمَالِ، أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْجَمِيعِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا، وَهُمْ ضَامِنُونَ كُلٌّ مِنَّا بِالْحِصَّةِ لَزِمَهُ مَا يَخُصُّهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنَا، وَهُمْ ضَامِنُونَ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ، وَهُمْ ضَامِنُونَ لَزِمَهُ الْجَمِيعُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ الْقِسْطُ. فَقَوْلُ الْأَصْحَابِ هُنَا إذَا قَالَ: أَنَا، وَهُمْ ضَامِنُونَ لَزِمَهُ بِحِصَّتِهِ خَاصَّةً يَقْتَضِي أَنَّهُمَا إذَا قَالَا: ضَمِنَّا مَالَك عَلَى فُلَانٍ لَا يَلْزَمُ كُلًّا مِنْهُمَا إلَّا النِّصْفُ. قُلْت: هَذَا مِنْ الطِّرَازِ الْأَوَّلِ، وَالتَّمَسُّكُ مِنْ الْعُلُومِ بِظَوَاهِرِهَا يُحْمَلُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: إنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى حَقِيقَةِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْتِمَاسُ إتْلَافٍ بِعِوَضٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ كَقَوْلِهِ: اعْتِقْ عَبْدَك عَلَى كَذَا، وَرَدُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَبِي ثَوْرٍ حَيْثُ قَالَ: يَصِحُّ هَذَا الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَقِيقَتُهُ حَقِيقَةَ الضَّمَانِ فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ حُكْمِهِ لِمَا هُوَ ضَمَانٌ حَقِيقَةً.
فَإِنْ قُلْت: هَبْ أَنَّهُ لَيْسَ بِضَمَانٍ لَكِنَّهُ الْتِزَامٌ، وَالِالْتِزَامُ يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إلَيْهِمَا، وَإِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا قَدَّمْته أَنْتَ فِي اللِّقَاءِ، وَالرُّؤْيَةِ، وَنَحْوِهِمَا بِخِلَافِ الْأَكْلِ، وَنَحْوِهِ، وَالْمَتَاعُ الَّذِي يُرِيدُ إلْقَاءَهُ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ اسْمُ الْمَتَاعِ صِدْقَ الْعَامِّ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ كَمَا قَرَّرْته أَنْتَ فِي لَفْظَةِ " مَا " فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَا: الْتَزَمْنَا، أَوْ ضَمِنَّا مَالَك، أَوْ مَتَاعَك الَّذِي فِي السَّفِينَةِ، أَوْ أَنَا، وَهُمْ ضَامِنُونَ لَهُ، وَحَيْثُ قَالَ الْأَصْحَابُ فِي هَذَا: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْقِسْطُ يَلْزَمُك أَنْ تَقُولَ بِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَإِلَّا فَبَيِّنْ لِي فَرْقًا مَعْنَوِيًّا بَيْنَ الِالْتِزَامَيْنِ، وَدَعْ افْتِرَاقَهُمَا فِي حَقِيقَةِ الضَّمَانِ الْمُسْتَدْعِي ضَمَّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِبَحْثِنَا هُنَا.
قُلْت: لَا شَكَّ أَنَّ الِالْتِزَامَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ حَاصِلٌ فِي ضَمَانِ السَّفِينَةِ، وَضَمَانِ دَيْنِ الْغَيْرِ، وَالْتِزَامِ الْجُعْلِ فِي الْجَعَالَةِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَعِوَضِ الْقَرْضِ، وَسَائِرِ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَمَا كَانَ مِنْهَا مُعَاوَضَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute