يَكُونَ مُجْتَهِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا، وَحَكَمَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لَا يُنْقَضُ إلَّا إذَا خَالَفَ، وَاحِدًا مِنْ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ رَابِعًا، وَهُوَ الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا، وَجَوَّزْنَا قَضَاءَهُ، وَحَكَمَ بِمَذْهَبِ إمَامِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ حَكَمَ بِمَا تَوَهَّمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِيطَ عِلْمًا فَهَذَا قَضَاؤُهُ بَاطِلٌ مَنْقُوضٌ سَوَاءً صَادَفَ الْحَقَّ أَمْ لَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ» فَكُلُّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى حُكْمٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ بِاجْتِهَادِهِ، أَوْ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ عَنْ إمَامِهِ يَعْلَمُهُ قَبْلَ قَضَائِهِ بَلْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ بِمَا سَبَقَ فِي، وَهْمِهِ، وَخَطَرَ بِبَالِهِ فَقَضَاؤُهُ بَاطِلٌ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَذْهَبُ إمَامِهِ مَجْزُومًا بِهِ، وَمُجْمَعًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُصَادِفْ مُحِلًّا، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمُقَلِّدِ، وَالْمُجْتَهِدِ، وَأَمَّا إذَا اسْتَنَدَ إلَى وَجْهٍ، أَوْ قَوْلٍ لَيْسَ هُوَ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ أَعْنِي الَّذِي صَحَّحَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ.
وَاشْتَهَرَ الْأَخْذُ بِهِ فِي مَذْهَبِهِ، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْمَذْهَبِ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّرْجِيحِ جَازَ، وَنَفَذَ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ، وَكَانَ حُكْمُهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِهِ لَهُ حُكْمًا بِمَا لَا يَعْلَمُ فَيَدْخُلُ النَّارَ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ اعْتَقَدَ صِحَّةَ ذَلِكَ الْوَجْهِ تَقْلِيدًا لِصَاحِبِهِ، وَأَنَّ الْمَشْهُورَ خِلَافُهُ.
فَإِنْ كَانَ لِاعْتِقَادِهِ ذَلِكَ مُسْتَنَدٌ صَحِيحٌ إمَّا مِنْ دَلِيلٍ بِحَسْبِ حَالِهِ، أَوْ أَمْرٍ دِينِيٍّ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ فَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِصِحَّتِهِ لِاعْتِقَادِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِبُطْلَانِهِ لِمُدْرَكَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) : أَنَّ ذَلِكَ الْوَجْهَ لَا يُقَلَّدُ قَائِلُهُ إلَّا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ لِكَوْنِ قَائِلِهِ يَرَى أَنَّهُ مَذْهَبُ إمَامِهِ، فَإِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ خِلَافَهُ كَانَ قَوْلُهُمْ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ.
(وَالثَّانِي) : أَنَّهُ إنَّمَا فُوِّضَ إلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهُوَ مُقَلِّدٌ لِإِمَامٍ إلَّا لِيَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُخَالِفُ قَوْلَهُ كَمَا لَا يَحْكُمُ بِمَذْهَبِ عَالِمٍ آخَرَ، فَإِنْ قُلْت: فَهَلْ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ غُرْمُ الْمَالِ الَّذِي اسْتَعَادَهُ مِنْ الْقَابِضِ؟ قُلْت: حَيْثُ نَقَضْنَا حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ يَعْنِي أَنَّهُ يُطَالِبُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِ مَنْ أَخَذَهُ أَلْزَمَهُ بِرَدِّهِ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا أَلْزَمَهُ بِرَدِّ بَدَلِهِ، فَإِنْ أُعْسِرَ الْمَحْكُومُ، أَوْ غَابَ طُولِبَ الْقَاضِي لِيُغَرَّمَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي قَوْلٍ، وَمِنْ خَالِصِ مَالِهِ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ثُمَّ يُرْجَعُ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ إذَا أَيْسَرَ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَتَوَقَّفَ مُطَالَبَةُ الْقَاضِي عَلَى غَيْبَةِ الْمَحْكُومِ لَهُ، وَلَا عَلَى إعْسَارِهِ بَلْ يَتَخَيَّرُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِي مُطَالَبَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ثُمَّ الْقَاضِي إذَا غَرِمَ يَرْجِعُ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ.
هَذَا مَا تَيَسَّرَ ذِكْرُهُ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. انْتَهَى. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبْتهَا فِي رَابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute