وَأَنَّهُ إذَا قَامَ لِكِفَايَتِهِ وَأَنْفَقَ الشَّيْءَ عَلَى أَهْلِهِ إذَا فَوَّتَهُمْ بِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ النَّفَقَةَ دُونَ الْمُؤْنَةِ فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَيَحْتَمِلُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَمَالِ زُهْدِهِ وَرَغْبَتِهِ عَنْ الدُّنْيَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَمَنْ يَخْتَصُّ بِهِ أَزْوَاجُهُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لِاخْتِيَارِهِمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ إرَادَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا مَعَ إبَاحَتِهَا لَهُنَّ لِتَمْكِينِهِنَّ مِنْهَا وَتَقْرِيرِهِنَّ عَلَيْهَا لَوْ أَرَدْنَهَا فَكَانَتْ رُتْبَتُهُنَّ أَعْظَمَ الْمَرَاتِبِ فَاخْتِيرَ لَهُنَّ النَّفَقَةُ الَّتِي قَدِمَهَا بِالضَّرُورَةِ وَالْقُوتِ وَذَخَرَ نَصِيبَهُنَّ لِلْآخِرَةِ لِيُوَفَّيْنَ أُجُورَهُنَّ مَرَّتَيْنِ وَلِشَفَقَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ وَعِلْمِهِ بِأَنْ لَيْسَ كُلُّ النُّفُوسِ تَصْبِرُ عَلَى الضِّيقِ جَعَلَ لِلْعَامِلِ كِفَايَتَهُ لِئَلَّا تُضَيِّقَ نَفْسُهُ وَهُوَ لَيْسَ بِمُعِينٍ بِخِلَافِ الزَّوْجَاتِ اللَّوَاتِي خَبَرَ حَالَهُنَّ وَأَيْضًا فَاَلَّذِي أَخَذَهُ أُجْرَةُ عَمَلٍ، هَذَا الَّذِي خَطَرَ لِي فِي ذَلِكَ إنْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ مِنْ الرُّوَاةِ وَرِوَايَةٍ بِالْمَعْنَى فَإِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْبُخَارِيِّ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} [التوبة: ١٢١] وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: ٦٧] فَفِي الْآيَتَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى انْقِسَامِ النَّفَقَةِ إلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: النَّفَقَةُ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ، وَالْمُؤْنَةُ قَدْ تُدَّخَرُ فَلَمْ يَجْعَلْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنِسَائِهِ إلَّا قَدْرَ مَا يُخْرِجْنَهُ لِيَكُنَّ عَلَى أَفْضَلِ الْحَالَاتِ وَأَكْمَلِهَا مِنْ الزُّهْدِ وَالتَّجَرُّدِ عَنْ الدُّنْيَا وَالتَّبَتُّلِ لِلْآخِرَةِ وَجَعَلَ لِلْعَامِلِ مَا يُمَوِّنُهُ وَقَدْ يَدَّخِرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى مَا يَقْوَى عَلَيْهِ بَيْتُ النُّبُوَّةِ وَلِأَنَّهُ أُجْرَةُ عَمَلٍ.
وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَفْضُلُ عَائِشَةَ فِي الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ مَنْ يُحِبُّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ تَفْعَلُ مَا يَلِيقُ بِهَا فَلَمْ تَكُنْ تَدَّخِرُ شَيْئًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَنْ أَبِيهَا وَكَذَا بَقِيَّةُ النِّسَاءِ يَجِبُ عَلَيْنَا تَفْضِيلُهُنَّ وَتَفْضِيلُ قِسْمَهُنَّ لِشَرَفِهِنَّ، وَهُنَّ يَفْعَلْنَ مَا يَلِيقُ بِهِنَّ مِنْ الزَّهَادَةِ وَمَا اخْتَارَهُ لَهُنَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتِيَارُهُ لَهُنَّ شَيْءٌ وَاخْتِيَارُهُنَّ؛ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْءٌ وَاخْتِيَارُنَا نَحْنُ لَهُنَّ شَيْءٌ وَلَا يُعَوِّضُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ الْآخَرَ.
وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ أَنْ يُكْرِمُوهُمْ وَيُفَضِّلُوهُمْ ثُمَّ هُمْ يَخْتَارُونَ؛ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَرَوْنَهُ بِمَا يَلِيقُ بِعِلْمِهِمْ وَزُهْدِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذَا ظَاهِرٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute