للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمَخَافَةُ فِي قَوْلِك خَرَجْت مَخَافَةَ الشَّرِّ وَضَرَبْته تَأْدِيبًا تَعْلِيلَيْنِ، وَتَقُولُ أَيْضًا حَسِبْت خُرُوجَهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وَظَنَنْت ضَرْبَهُ لِلتَّأْدِيبِ فَتَجْعَلُهُمَا مَفْعُولَيْنِ كَمَا جَعَلْتهمَا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا.

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي هَذَا الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَسْئِلَةٌ (أَحَدُهَا) أَنَّ الْمُتَبَادِرَ إلَى فَهْمِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْآيَةِ إنْكَارُ حُسْبَانِهِمْ التَّرْكَ وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّ مُطْلَقَ التَّرْكِ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ كَوْنُ التَّرْكِ لِقَوْلِهِمْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَقَّ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: ٣٦] أَيْ لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى. وَذَلِكَ لَا يَكُونُ. فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ تَحْتَ التَّكَالِيفِ وَآيَةُ الْعَنْكَبُوتِ مَعْنَاهَا التَّرْكُ مِنْ الْفِتْنَةِ الَّتِي يُمْتَحَنُ بِهَا صِحَّةُ إيمَانِهِ وَدُخُولُهُ فِي قَلْبِهِ وَصِدْقُهُ فِي قَوْلِهِ " آمَنَّا " وَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَةَ عَلِمَ ذَلِكَ. (السُّؤَالُ الثَّانِي) أَنَّ لِلنُّحَاةِ مَذْهَبَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّ " أَنْ " وَصِلَتَهَا تَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ثَابِتًا.

فَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمَا مَذْكُورَانِ؛ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْمَذْهَبَيْنِ وَيُوَكِّدُ هَذَا السُّؤَالَ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} [العنكبوت: ٢] سَادًّا مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ حَيْثُ تَمَّ الْكَلَامُ فَأَنْ وَالْفِعْلُ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. عَلَى الصَّحِيحِ.

وَقَدَّرَ الثَّانِيَ مَحْذُوفًا عَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ (أَنْ يَسْبِقُونَا) فَإِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ بِهِ. أَمَّا قَوْلُ " أَنْ يُتْرَكُوا " فَلَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ عِنْدَهُ، وَلَمَّا قُلْنَا أَنَّ الْمُنْكَرَ كَوْنُ التَّرْكِ لِقَوْلِهِمْ: لَا مُطْلَقُ التَّرْكِ. فَلَا شَكَّ فِي احْتِيَاجِ الْكَلَامِ إلَى تَتِمَّةٍ كَمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، لَكِنَّ تِلْكَ التَّتِمَّةَ مَفْعُولٌ آخَرُ أَوْ غَيْرُهُ، ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَفْعُولٌ آخَرُ.

وَنَحْنُ نُخَالِفُهُ، فَنَحْنُ لَمْ نُخَالِفْ النُّحَاةَ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ، وَهُوَ إذَا جَعَلَ الْمَفْعُولَيْنِ مَذْكُورَيْنِ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنُّحَاةِ مُنْتَحِلٌ مَذْهَبًا ثَالِثًا، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْمَذْهَبَيْنِ إنَّمَا هُمَا فِيمَا إذَا تَمَّ الْكَلَامُ " بِأَنْ وَالْفِعْلِ " الدَّاخِلَةِ " حَسِبَ " عَلَيْهِمَا دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى الْحُدُوثِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّصْدِيقِ، وَذَلِكَ مِمَّا اُخْتِيرَتْ لَهُ " أَنْ وَالْفِعْلُ " دُونَ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ فَإِنَّ صَرِيحَ الْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى التَّصَوُّرِيِّ فَقَطْ إمَّا جِنْسُ الْمَصْدَرِ وَإِمَّا نَوْعُهُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِوُقُوعِهِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ، كَمَا يُشْعِرُ بِهِ " أَنْ وَالْفِعْلُ " فَلَا شَكَّ أَنَّهُ حَيْثُ قَصَدَ الْمَعْنَى التَّصَوُّرِيَّ اُحْتِيجَ إلَى مَفْعُولٍ آخَرَ، وَحَيْثُ قَصَدَ الْمَعْنَى التَّصْدِيقِيَّ أَغْنَتْ عَنْ الْمَفْعُولَيْنِ، فَهَلْ يَأْتِي " أَنْ وَالْفِعْلُ " وَيُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى التَّصَوُّرِيُّ فَقَطْ: هَذَا مِمَّا عِنْدَنَا فِيهِ نَظَرٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالُ يَجُوزُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ١٨٤] مَعْنَاهُ وَصَوْمُكُمْ وَقَعَ مُبْتَدَأً وَكُلُّ مَا وَقَعَ مُبْتَدَأً يَقَعُ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِحَسِبَ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ " أَنْ " لَا تَخْرُجُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُدُوثِ وقَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا} [البقرة: ١٨٤] أُشِيرَ بِهِ إلَى وُقُوعِ الصَّوْمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>