للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نَفْسٍ يُتَرَجَّى أَنْ تُؤْمِنَ وَأَنْ تُخْرِجَ مِنْ صُلْبِهَا مَنْ يُؤْمِنُ وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ بِإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَلَمَّا بَذَلَ الشَّهِيدُ نَفْسَهُ الَّتِي هِيَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ وَبَاعَهَا لِلَّهِ تَعَالَى طَلَبًا لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَاقْتَطَعَ دُونَهَا وَيُعِينُهُ تَعَالَى مَا يَتَحَمَّلُ الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِهِ وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِمَّا يَتَحَمَّلُهُ الشَّهِيدُ جَازَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ بِمَا تَقْصُرُ عُقُولُ الْبَشَرِ عَنْهُ.

وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى أَشْهَدَهُ مَا لَهُ مِنْ الْكَرَامَةِ جُمْلَةً وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْعَقْلُ وَالطَّرْفُ تَفْصِيلَهَا فَيَرَى بِعَيْنِهِ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْكَرَامَةِ وَالْخَيْرِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ شَهِيدًا وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ وَقِيلَ: إنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ أَوْ أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَشْهَدُهُ وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهُرُ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَهِيَ حَالَةٌ تَحْصُلُ لَهُ شَرِيفَةٌ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي حَدِّ حَقِيقَتِهَا: إنَّهَا حَالَةٌ شَرِيفَةٌ تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ وَلَوْ جَزَمْنَا بِأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، قُلْنَا فِي الْعَبْدِ بِأَنَّ شُهُودَهُ لِلْكَرَامَةِ حَالَةٌ تَحْصُلُ مِنْهُ فِي بَصَرِهِ وَقَلْبِهِ، وَلَكِنَّا قُلْنَا لَهُ يَصِحُّ عَلَى كَلَا الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ شُهُودَ مَلَائِكَةِ الرِّضَا لَهُ حَالَةٌ حَاصِلَةٌ لِأَجْلِهِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ وَأَعْظَمُ لِمَا فِيهِ مِمَّا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْبَهْجَةِ النُّورَانِيَّةِ وَفِي الْبَصَرِ مِنْ رُؤْيَةِ الْجَنَّةِ وَكَأَنَّهُ أَوَّلُ قَبْضِ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ الشَّهِيدُ بِهِ نَفْسَهُ وَحَصَلَ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ يُشَجِّعُ غَيْرَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِثْلِهِ وَيَخْذُلُ الْكُفَّارُ وَيُضْعِفُ نُفُوسَهُمْ وَرُبَّمَا يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ.

وَالثَّانِي مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَلَمِ الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنْ فَوَاتِ نَفْسِهِ وَتَحَقُّقِهِ لِذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهَا فَإِنَّ حَتْفَ أَنْفِهِ لَا يَيْأَسُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ إمَّا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ فَجْأَةً أَوْ بِأَمْرَاضٍ يُتَرَجَّى مَعَهَا الْعَافِيَةُ أَوْ يَغِيبُ عَقْلُهُ حَتَّى تَخْرُجَ رُوحُهُ، وَالشَّهِيدُ قَدْ تَذَرَّعَ أَسْبَابَ الْمَوْتِ فِي حَالِ حُضُورِ عَقْلِهِ وَأَعْرَضَ عَنْ نَفْسِهِ فِي رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ فَضْلُ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى مَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الشُّهَدَاءِ قَدْ لَا يُشَارِكُهُ إلَّا فِي الْأَلَمِ فَأَنَّى يَكُونُ مِثْلَهُ وَإِنْ سَاوَاهُ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي وَصَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّهِيدِ وَالِاسْمُ يَشْتَرِكُ فِيهِ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَأَدْنَاهَا فَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمْ كَوَاحِدٍ وَوَاحِدٌ كَالْأَلْفِ:

أَكُلُّ امْرِئٍ تَحْسِبِينَ امْرَأً ... وَنَارٍ تُوقِدُ بِاللَّيْلِ نَارًا

<<  <  ج: ص:  >  >>